*تجدُّدُ
موسیقا الشِّعْرِ العربیِّ الحدیث
بین التفعیلة والإیقاع*
بین التفعیلة والإیقاع*
* "ولم یَقصرِ اللهُ العلمَ ، والشعرَ، والبلاغةَ على زمنٍ دون زمنٍ،
ولا خصَّ به قوماً دون قومٍ.بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بین عباده فی كل دهْرٍ،
وجعل كل قدیم حدیثاً فی عصره ".
(ابن قتیبة: الشعر والشعراء)*
*
*
*تمهید:
فی بحثی هذا عن تجدد موسیقى الشعرالعربی الحدیث أهدف إلى أمرین:
أولهما : محاولة الوقوف على أثر هذه الموسیقا فی تطویر الشعر، وتجدد أشكاله
وتعدد صوره. ، إیجابا(بتحققها) ، كما فی :الموشحات والمخمسات والرباعیات ،
والمواویل، والمزدوجات ،وصولا إلى الشعر الحر(التفعیلة)، و سلبا (بغیابها)
كما فی قصیدة النثر(الإیقاع).
والثانی : الكشف عن فاعلیة هذه الموسیقا فی بناء القصیدة ، وتشكیلها تشكیلا
فنیا خاصا. بما یجعل من الموسیقا مدخلا للولوج إلى فهم البنیة والدلالة.
ولهذا حاولت ألا أكتفی برصد صور التجدید وظواهره ، بل كنت أعنى بالكشف عن
أسباب لجوء الشاعر إلى إیثار صورة ما للتعبیر عن تجربته ، كما رأیت فیما
أسمیته ظاهرة الالتفات العروضی . وهو أن یبدأ الشاعر بنمط من أنماط الشعر
أو بحر من البحور ، ثم یأخذ فی غیره لدلالة یقصدها.
ووصف شعرٍما بأنه حدیث وصف زمنی لا یوحی بحكم قیمة فرب حدیث أفضل من قدیم
ورب حدیث فی وقته یوصف بعد ذلك بالانحطاط ؛ فالشعر الذی كتب إبان عصور
الانحطاط الأدبیة كان فی وقته حدیثا !
لهذا صدرت البحث بكلمة ابن قتیبة المنصفة :
"ولم یَقصرِ اللهُ العلمَ ، والشعرَ، والبلاغةَ على زمنٍ دون زمن، ولا خصَّ بها قوماً
دون قومٍ. بل جعل ذلك مشترَكاً مقسوماً بین عباده فی كل دهر، وجعل كل قدیمٍ
حدیثاً فی عصره ". (ابن قتیبة: الشعر والشعراء)
أما المراد بالحدیث هنا وصفا للشعر فللدلالة على محاولات التجدید فی
الموسیقا الشعریة قبیل النصف الثانی من القرن العشرین المیلادی حیث بدأ
التجدید فی القصیدة الحدیثة یتجاوز المعانی والصور والأفكار إلى تجارب فنیة
تتصل بالتشیكل الموسیقی ، فبدأت محاولات الشعر المرسل و الشعر المنطلق
والشعر الحر والشعر المنثور ، وصولا إلى قصیدة النثر أو قصیدة الإیقاع .
أما أهم اتجاهات التجدید ومدارسه فی عصرنا الحدیث فهی: مدرسة الإحیاء،
وجماعة الدیوان، وجماعة أبولو ومدرسة المهجر، ثم جماعة مجلة شعر.
ثم عرفت موسیقا الشعر وبینت أهمیتها من حیث هی عنصر واحد من عناصر بناء
الشعریتضافر مع سائر العناصر فی بناء النص الشعری وتشكیله.
وهی عنصر مهم كاشف عن جانب من جوانب أسرار البناء الفنی .
وقد استعملت مصطلحات الموسیقا والوزن، والإیقاع وقد وصلت إلى معادلة یمكن
تصویرها على النحو التالی:
الموسیقا الشعریة = الوزن + الإیقاع
فالوزن وحده یعنی النظم ، وهو إذا خلا من الإیقاع یقع فی التنافر، والإیقاع
وحده لا یحقق الموسیقا الشعریة بل هو عنصر من عناصرها ، یحقق الانسجام الذی
یكون فی الشعر كما یكون فی النثر. هو خصیصة من خصائص الكلمة الفصیحة فی
النثر والشعر جمیعا، كما یقول ابن أبی الإصبع : " وهو أن یأتی الكلام
متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى یكون للجملة من
المنثور والبیت من الموزون وقع فی النفوس وتأثیر فی القلوب ما لیس
لغیره"(تحریر التحبیر : 480)
أما مناقشتی لبدائل التفعیلة فی تصویر الوزن فقد كانت فی إطار علم العوض،
أعنی فی إطار تصویر أوزان القصیدة العربیة الأصیلة، ولم تكن على مستوى
الإبداع ، ولهذا صرحت بأن حواری فی هذا البحث لم یكن مع المبدعین فللمبدع
ما كان مبدعا أن یختار ما یناسب تجاربه ورؤاه ، ولكن كان نقاشی مع علماء
الموسیقا الشعریة من جهة ، ومع نقاد قصیدة النثر المنافحین عنها من جهة أخرى.
أما عن ترجیحی لاتخاذ التفعیلة أساسا لتصویر الوزن العروضی للقصیدة العربیة
فمبنی على إدراك اتساقها مع طبیعة اللغة العربیة ذاتها بصفتها لغة
اشتقاقیة. ثم لدقتها وموضوعیتها فی هذا التصویر ، فلا یختلف اثنان فی
التعبیر عن صورة الوزن إذا هما لجأا إلى التفعیلة بینما إذا لجأ نفر إلى
اتخاذ غیرها كالنبر أو المقاطع وجدت بینهم اختلافا كثیرا.
ولیس ترجیحی للتفعیلة نفیا لاستعمال غیرها من الوسائل الصوتیة معها ، بل
أرى أهمیة الاستئناس بتلك الوسائل على ألا تكون بدیلا للتفعیلة بل مساعدا
لها، للوقوف على أسرار موسیقا الشعر.
ولیس نقدی لبعض مقولات نقاد هذه القصیدة الجدیدة رفضا لها بل هو نقاش معهم
یهدف إلى محاولة تحریر المفاهیم النظریة حولها، ومنها مفهوم مبدأ التعویض.
الذی احتل مكانة كبیرة لدیهم.
وقد رأیت أن مفهوم التعویض لدى نقاد قصیدة النثر (الإیقاع)
وقد أفرزت هذه المدارس أنماطا عدة بقی منها فی المشهد الشعری ثلاثة أنماط
ما یزال لها مبدعوها ونقادها والمتذوقون لها وربما وصل الإعجاب بأحدها إلى
درجة التعصب ورفض ما عداها، وهی:
أولا: الشعر الأصیل: وهو المحافظ على الشكل الموسیقی للقصیدة العربیة
القدیمة مع التجدید فی إطارها من حیث ابتكارصور جدیدة ، والتنویع فی نظام
التقفیة .
ویطلق علیه كثیرون تسمیات غیر منهجیة مثل:
• الشعر التقلیدی: وهی تسمیة توحی الانتقاص إذ تنسبه إلى التقلید ، وسوف
ترى أن كل نمط یبدأ جدیدا وینتهی إلى التقلید فی الشكل. فمن الظلم ان یسمى
تقلیدیا .
• الشعر الخلیلی: وهی أیضا تسمیة خاطئة ، لأن هذا الشعر موجود من قبل
الخلیل كما عبر الشاعر:
قد كان شعر الورى صحیحا من قبل أن یخلق الخلیل
ومن المعروف أن العلماء زادوا على الخلیل بحرا مشهورا هو المتدارك ، كما
زادوا صورا عروضیة مبتكرة عما قرروا الخلیل كل هذا فی إطار هذا الشعر. فعلم
العروض من أكثر العلوم قابلیة للتجدید والتطویر منذ نشأته.
• الشعر العمودی أو (العامودی) : أطلقوا هذا الاسم ظانین أن العمود مرتبط
بالشكل العروضی وهو خطأ؛ لأن عمود الشعر مرتبط بالمعنى واللفظ والتحام
البناء فی الأساس .
• شعر الشطرین : وهی كذلك تسمیة غیر دقیقة لأن من هذا الشعر شعرا یُؤلف على
شطر واحد كالشعر الجاری على المشطور والمنهوك من البحور.
• شعر البیت: وأرى أنها تسمیة مقبولة من حیث الوزن ؛ لأنه من الممكن النظر
إلى البیت بصفته وحدة موسیقیة تمثل معظم الخصائص الموسیقیة للقصیدة، أما
إذا كان المراد بها أن البیت وحدة القصیدة بعامة فهی مرفوضة ، فالقصیدة
العربیة القدیمة وحدة واحدة كما یوضح عبد القاهر قائلا: "ولكن البیت إذا
قطع عن القطعة كان كالكعاب تفرد عن الأتراب، فیظهر فیها ذل الاغتراب".
(أسرار البلاغة : 206)
فبان من هذا وغیره من نصوص التراث خطأ أن یكون البیت وحدة القصیدة.
على أن لیس فی تسمیته بالأصیل انتقاص لغیره من الأنواع المبتكرة، فهذه
الأشكال إنما هی فروع عنه، دون أن یلغی احدهما الآخر.
ثانیا: الشعر الحر:
وقد شاع هذا المصطلح رغم عدم دقته ، بل برغم ظلمه له ولأصحابه حتى اتهمه
معادوه بأنه متحرر من الوزن والقافیة ، وسموه أیضا بأنه شعر سائب، مما جعل
شاعرا منهم كصلاح عبد الصبورأن یقسم لهم : "موزون والله العظیم".
ولكن أدرك الدرس العروضی والنقدی خطأ هذا المصطلح فی التعبیر عن المراد به،
فذهب إلى تسمیته بشعر التفعیلة.
وقد بان من البحث أن شعر التفعیلة وفق توفیقا واضحا فی تفجیر الطاقات
الموسیقیة التراثیة فی القصیدة مدركین قیمة التفعیلة والقافیة فی تشكیل
القصیدة تشكیلا موسیقیا موحیا .
ثالثا: قصیدة النثر: وقد وقف كثیر من الرافضین لها عند التناقض الظاهر فی
المصطلح وقد دعوت هنا إلى تجاوز الجدل حول هذا الأمر لأنه من الممكن النظر
إلیه على أنه تقیید للقصیدة بأنها نثر ، كما فی مصطلح (اسم الفعل) لدى
النحاة لقسم من أقسام الكلم فی العربیة ، وهو لیس متناقضا.
وحتى لو سلمنا بعدم دقة المصطلح فقد كان مصطلح الشعر الحر غیر دقیق وبالرغم
من هذا نجح هذا اللون من الشعر نجاحا كبیرا .
على أن من الدارسین من حاول إیجاد مصطلحات بدیلة ، أرى أقربها إلى الاشتقاق
والدلالة مصطلح (النثیرة) ویجمع على نثائر؛ فهو أفضل من تسمیات مقترحة مثل:
النسیقة، والعصیدة ، وكلها بعیدة عن الدلالة على هذا النمط ، ولا سیما
مصطلح : النثعیرة التی یأبها الاشتقاق . ویمجها الذوق.
ومن التسمیات تسمیة الشاعرعز الدین المناصرة لها بأنها القصیدة الخنثى .
وأنا أرفض مثل هذه التسمیات لأنها غیر موضوعیة.
وقد استعملت فی البحث مصطلح (قصیدة الإیقاع ) فی مقابل (قصیدة التفعیلة)
على فرض أن هذه القصیدة قد تخلت عن التفعیلة ولجأت إلى الإیقاع، وقد ناقشت
هذا الفرض.
والإیقاع یختلف عن الموسیقا فهو جزء من كل ، ولیس تحقق الإیقاع فی قصیدة
النثر تعویضا عن الموسیقا الغائبة فقد أكد كثیر من الباحثین أن الإیقاع
یكون فی النثر كما یكون فی الشعر.
وقد حاول نقاد هذه القصیدة البحث عن أسباب هذا الإیقاع ورصدها، والتقنین له
من خلال طرح التساؤل:
لقد وفق الخلیل فی رصد موسیقا الشعر العربی ، ونجح ابن سناء الملك فی كشف
القوانین الموسیقیة للموشحات ، واهتدت نازك الملائكة فلماذا لا یأتی مكتشف
لإیقاعات قصیدة النثر فیعمل لها ما عمله الخلیل وابن سناء ونازك.
وأرى أن مهمة هذا المكتشف المنتظر صعبة إن لم تكن مستحیلة؛ لأن الذی ساعد
هؤلاء السابقین أنهم تعاملوا مع أشكال لها موسیقاها رغم تنوعها. أما قصیدة
النثر فما تزال تبحث عن إیقاعها المرتجى . ومن یدری ربما وصلت إلیه یوما
فلا تضطر نقادها إلى تكلف القول فی بدائل غیر مجدیة.
لم یكن نقاشی هنا مع شعراء قصیدة النثر؛ لأن للمبدع - ما كان مبدعا - أن
یختار النمط الذی یناسب تجربته ورؤیاه ، وإنما كان حواری مع نفر من نقاد
هذه القصیدة یفتعلون خصومة بینها وبین الأنماط الأخرى ، كما لاحظت فی خطاب
الناقد الكبیر صلاح فضل الذی یتحدث عنها بلغة ثوریة حربیة، مع ان هذه
الخصومة لیست حاضرة فی أذهان كثیرین من مبدعی قصیدة النثر، مثل نزیه أبو
عفش الذی یبدع أیضا فی قصیدة التفعیلة ، ومثل الشاعر عماد الغزالی الذی عاد
إلى النبع فی دیوانه "لا تجرح الأبیض"
وبعد فأرجو أن تكون كلمتی تلك التی أثارتها شجون موسیقا الشعر وتجددها
وتجلیاتها حضورا وغیابا ، وأن تكون دعوة لنبذ التعصب، ومحاولة التعایش
الإیجابی بین الأنماط الثلاثة ولنذكر أن شعر التفعیلة لم یلغ الشعر الأصیل
بل تعایشا معا تعایشا أفاد كلیهما. وما زالا حاضرین فی المشهد الشعری ولن
یضیرهما أن تنجح قصیدة النثر فی اتخاذ مكان لها فی المشهد الشعری معهما، بل
لا ضیر للثلاثة فی أن یصدر شكل رابع جدید ؛ لأننا لا بد أن ندرك أن قصیدة
النثر لیست نهایة التاریخ الأدبی.*
**
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:55|