ابزار وبمستر

الیوتوبیا فی شعر نازك الملائكة
الیوتوبیا فی شعر نازك الملائكة


المستخلص

راودت فكرة الیوتوبیا أو الطوباویة الكثیرین من الأدباء و الشعراء الذین یتمتعون بحسّ أخلاقی رفیع المستوى. و كان الحلم بمدینة فاضلة یعیش فیها الإنسان أحرارا متساوین أمام القانون -ولا یزال - حلما خصبا یستمد وجوده من وقائع شتى كغیاب العدالة، المكر، الخبث، الاحتیال، الظلم و الظلام الذی أحاط بالبشریة من كل ناحیة ردحا من الزمن .

كان افلاطون أول من أشارإلیها فی كتابه " الجمهوریة" و یعتقد أن الناس سواء فی كل شیء و بعده رسم الفارابی دنیاه المثالیة فی كتابه " المدینة الفاضلة" و یرى مساواة الناس أمام میزان العدل. والحالمون بذلك كثیرون من العباقرة أمثال القدیس اوغسطین، شیشرون، دانتی، فرنسیس بیكن و توماس مور و غیرهم.

فی هذه المقالة أتناول میزات الیوتوبیا فی شعر نازك الملائكة، عنایة بأنها كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الأدبیة. الیوتوبیا – توماس مور– مدینة فاضلة – الكلمات الرئیسیة: الطوباویة

المقدمة

یوتوبیا كلمة یونانیة معناها لا مكان أو المكان الذی لا وجود له. قد استقیت من الكلمتین الیونانییتین بمعنى" مكان" و الكلمة فی مجموعها تعنیtopos بمعنی "لا" و ou لیس فی مكان، لكنّه أسقط حرف ال- O و كتبت الكلمة باللاتینیة utopia الیوتوبیا مكان خیالی قصی جدا و هی دنیا مثالیة و بخاصة من حیث قوانینها و حكوماتها و أحوالها الاجتماعیة. و هی عالم یجوز تسمیته بالخیال أو صورة ماوراء العین، مكان یتحقق فیه التعاون الاجتماعی بصورة كاملة التحقیق لسعادة الأفراد.

حلم الإنسان منذ القدیم بمدینة مثالیة نموذجیة یأخذ كل فرد فیها حقّه و یؤدّی ما علیه من واجبات تجاه نفسه و تجاه الآخرین. مدینة بلا جوع و لا ظلم ولا فقر و مدینة القانون و العدالة، دولة مثالیة تتحقّق فیها السعادة لجمیع الناس و تمحو الشرور، فالناس فیها سواء فیما یملكون و یحصلون على ما یحتاجون إلیه حاجة حقیقیة، متساوون أمام میزان العدل، و هی مدینة المثل العلیا، مدینة العلم والمعرفة وكأنها تنادی الإنسان بالعودة الی فطرته الطاهرة.

حلم الإنسان منذ النشأة البشریة؛ فإنها تبحث عن النموذج المجتمعی الخیالی و المثالی، ذلك الذی یعوضها عن الفردوس المفقود الذی فیه یتحقق الكمال أو یقترب منه على الأقل و یتحرر من الشرور التی تعانی منها البشریة و هو أمر حسب أنه لا یوجد سوى فی ذهن الكاتب نفسه و خیاله قبل كل شیء.

كان أول من حلم بذلك الفیلسوف الیونانی " افلاطون " من خلال كتابه " الجمهوریة " ویرى فیه أن الناس سواء فی كل ما یكتسبون و یملكون و یحتاجون إلیه و بالروح نفسها رسم المعلم الثانی " الفارابی " دنیاه المثالیة من خلال كتابه " المدینة الفاضلة " حیث یعیش فیها الناس متساوین أمام المیزان میزان العدل. و استمرّ رسم الیوتوبیا فی خیالها الخصب من عباقرة الشعر و الأدب و الفلسفة مدى التاریخ .و مما یلفت النظر أن الكتابة عن یوتوبیا تطوّرت تطوّرا ملحوظا و برز تقدّمها فی العصر الكلاسیكی أی حوالی القرنین السادس والسابع عشر.

و من هؤلاء " توماس مور " فی كتابه " یوتوبیا " سنة 1516م الذی یتحدث فیه عن مدینة فاضلة و أعقبه بعد ذلك " توماس كامبانیلا " سنة 1623 م فی كتابه " مدینة الشمس " و بعده " فرنسیس بیكون " سنة 1627 م فی كتابه " اطلنطس الجدیدة " و أیضا " ایتین كابی " سنة 1840 م الذی سمّى مدینته المثالیة " إیكاریا " فی كتابه "رحلةإلی إیكاریا ".

وغیر هؤلاء كتب كثیرون أحلامهم عن مدنهم المتّصفة بسمات العدل و الحق و المساواة؛ ولكن عندما نمعن النظر نرى أن أمانیهم قد فشلت و كانت هذه شعارات التی یحاربها غالبیة المدّعین بها والمدافعین عنها بقدر ما التصقت فی أذهاننا بعض المدن الواقعیة التی خلدها الأدب و نراها كأثر أدبی بحت نقش رسم هذه المدن الخیالیة الفانتزیة على جدران ذاكرتنا بل نشعر أنّها مدن تنتمی إلى الخیال أكثر من انتمائها الی الواقع و غالبا لیست فی متناول الید.

والواقع أنّ التعبیر عن الیوتوبیا تخطّى مرحلة المعنى الأدبی الخیالی فأطلق على كل اصطلاح سیاسی أو احتمالات تتعلق بالعلوم والفنون فی مجملها؛ بید أنه یظلّ تصوّرا فلسفیا ینشدانسجام الإنسان مع نفسه و مع الآخرین فی عالمه الواسع. نشعر كلنا بالسرّ الموحود فی الزمان ولكنّنا غیر قادرین عن التعبیر عنه؛ فالزمن قدرنا، ألمنا و یأسنا وتجربه الإنسان بزمانیته هی تجربته الحزینة بزواله و انقضائه، فشكوى الإنسان من الزمان أزلیة و أغلب الظّنّ أنها ستبقى أبدیة. إنّ تجربة اللقاء بالمستقبل تثیر فی النفوس شعورا عجیبا، لیس من الضّروری أن یكون هذا المستقبل المتوقع خطیرا ولأن یحمل فی أحشائه و أمعائه النقمة أو النعمة؛ فالمهمّ أن یصبح حقیقة حیّة و هذا شعور لطیف لكلّ شخص أنّ فرصة الانتظار أحلى و أجمل من سعادة التحقیق.

و مهما كان صوت المستقبل للإنسان - لصالحه أو لطالحه، متوعّدا أو واعدا - لكن إشاراته دائما فی هالة إلهیة ولهذا كانت و ستبقى بالرهبة والجلال و یقف الإنسان منه موقف الحب والشوق كما یقف فی الماضی موقف الخشوع و الإشفاق. أمّا نازك الملائكة فشاعرة عربیة عراقیة من عمالقة الشعر الحدیث ومن روّاد الأوائل لحركة الشعر الحرّ . ولدت فی بغداد سنة 1923 م، درست الأدب العربیة فیها فسافرت إلى الولایات المتحده لدراسة الأدب الإنجلیزی و إكمال دراستها، درست الأدب المقارن بجامعة وسكونسن و حصلت على درجة الماجستیر سنة ٦195 م. ولها معرفة بالأدب الغربی وكانت الرومانسیة غالبة على شعرها و تولع بآثار الرومنظیقیین الإنجلیزیین مثل " شلی " و "كیتس ". و تحسّ بالقلق وتشعر بالحزن كشأن سائر الرومنسیین ممّا یجعلها الهروب إلى الطبیعة أو إلى نفسها والانطواء على ذاتها للتفتیش عنها؛ فهربت من الواقع و انطلقت إلى عالم الخیال الذی یمثل لها عالما مثالیا خاصا غیر محدود بزمان أو مكان و بحثت عن السعادة فیه؛ لجأت إلیه و عاشت فی كنفه.

تلجأ شاعرتنا إلى دائرة الأزمان و هی التی سمتها " یوتوبیا " منطقة یتعطّل فیها حكم الزمن و لكنّ الصفة الثابتة لها أنها أفق أزلی لا یدركها الفناء - كما یعتقد الدكتور شوقی ضیف - (فصول فی الشعر و نقده. ص 96).

ومما یلفت انتباهنا هنا أن الشاعرة استعملت " یوتوبیا " دلالة على مدینة شعریة خیالیة بدون وجود إلا فی أحلامها و طبعا لا علاقة لهذه المدینة بیوتوبیا التی تخیّلها الكاتب الإنكلیزی "توماس مور" و رسم فیها صورة سیاسیة إداریة للجزیرة المثلى كما یریدها قیاسا على "جمهوریة افلاطون " أو غیره.

أما من میزات هذا العالم فهی كما تصفها الشاعرة یكاد یكون خالیا عن الشرّ أو ینبغی أن یكون كذلك و تتذكره دائما فی حیاتها ومماتها و هناك لا یوجد أی قید یثقل علیها و القیود تذوب كلها و یفسح لها أن تفكر لتنطلق من الأسر، فهی تحبّ الهروب من مواجهة الواقع و الیوتوبیا تبدو لها مفارقة للواقع و كأنّها ترفض الواقع رفضا كلیا و قطعیا؛ لأنّها:

قد سئمتُ الواقعَ المرّ المملّا ولقد عدتُ خیالاً مُضمحلّا

فاتركینی بخیالی أتسلّى آه كاد الیأسُ یعرونی،لولا

أنّنی لُذتُ بأحلامِ السّماء وتَخیّرتُ خیالَ الشّعراء

( دیوان نازك الملائكة . ج 1. ص.599).

سئم الشیء و منه : ملّه. اضمحلّ الشیءُ : تلاشى و انحلّ . عرا ُ فلاناً أمر : ألمّ به. لاذَ ُ بالشیء : استتر به و التجأ إلیه ترى الشاعرة أن الواقع مرّ و مملّ فتبرّمت به، و بما أنها التجأت بأحلام السماء و تخیّرت لنفسها عالم الخیال و هو خیال الشعراء، هذا هو سبب خلاصها و إلا یلمّ بها الیأس و یثقل علیها.

تسارع الشاعرة لتهرب حیث لا علاقة لها بالزمان والمكان وهذا كلّه قید یغلّه ولكن فی یوتوبیا تذوب هذه القیود فتحسّ بشباب لایزول:

ویوتوبیا حُلمٌ فی دمی أموتُ و أحیا على ذكره

تخیّلتُه بلداً منْ عَبیر على أفق جرتُ فی سرّه

هنالك عبرَ فضاءٍ بعید تذوب الكواكب فی سحره

هنالك حیثُ تذوبُ القیود وینطلق الفكرُ من أسره

وحیثُ تنامُ عُیونُ الحَیاة هنالك َتمتدّ یوتوبیا

ویوتوبیا حَیثُ یَبقى الضّیاء ولاتغربُ الشّمْسُ أو تَغلَسُ

وحیثُ تَضیْعُ حُدودُ الزّمان وحیثُ الكَواكبُ لاتنْعَسُ

هناك الحَیاة امتدادُ الشّباب تفورُ بِنشْوتهِ الأنفُسُ

هناك یَظِلّ الّربیعُ رَبیعا یُظلّلُ سُكّانَ یوتوبیا

( دیوان .ج.2 ص. 40 ).

عبیر : أخلاط من الطیب، نكهة طیبة . الغَلَس : ظلمة آخر اللیل . نعس َ : فتر . فارت القدر: غلت وارتفعت ما فیها؛ فار ُ المسكُ : تضوّع و انتشر . النشوة : الرائحة، السكر أوّله تعتقد الشاعرة أن عالم الیوتوبیا كحلم اختلط فی دمها، تذكر هذا العالم فی محیاها و مماتها؛ و هی تصفها هكذا: بلد من عبیر، عالم لغز و سحر، تنصهر الكواكب و النجوم فی هذا السحر الموجود فی فضاء بعید، تذوب القیود، الفكر حرّ، الضیاء أبدیّ لأنّه لا زمان موجود ولا غروب للشمس ولاتفتر الكواكب ولاأثر للمشیب و الشباب سرمدیّ وتلتذّ الأنفس بهذه النشوة والفصل الوحید هناك هو الربیع الذی یظلّل سكّانه. وتعانق نازك الملائكة أمنیاتها الخیالیة أمنیات الطفولة فی هذا العالم حیث تقول:

وتَمرّ السّاعاتُ بی و أنا أبْ نِی خفایا مَدینةِ الأحْلام

أی یوتوبیا فقدْتُ و عَزّ الآ نَ إدراكُها على أیّامی

تلك یوتوبیا الطّفُولةِ لوْ تَر جعُ لو لمْ تكُنْ خیالَ مَنام

إیه تَلّ الرّمالِ ماذا تَرى أبْ قیْتَ لی منْ مَدیْنةِ الأحْلام

( دیوان .ج.1.ص.255).

عزّعلیّ الشیءُ: اشتدّ و صعب .، من الأضداد قوی و ضعف . ایه : اسم فعل للاستزادة من حدیث أو فعل . وتبنى الشاعرة فی هذا العالم خفایا مدینة الأحلام، و ترید أن تلجأ الی الماضی الجمیل بكلّ ما فیه و لاسیّما أیّام الطفولة و ترید أن تعیش فیها ولیس ذلك خیالا و تحسّ بالملل و الكآبة فی هذه الأیام التی تمرّ الساعات علیها بسرعة و لهذا ترید أن ترتبط بالماضی و ألا تنفصل عنه. وما زالت تردّد شكواها الدائمه من زوال الحیاة و انقضائها و لیس من المحتمل أن تتوقف هذه الشكوى ولا ینبغی لها كذلك أن تتوقف و تفارق الماضی و الحاضر و اتّجاهها حاسم للمستقبل و ظلّت تحلم بالمستقبل و تصوّره فی الیوتوبیا عندما تحسّ بضیاع الماضی و عبثیّة الحیاة و تحیرّها:

و مَرّتْ حَیاتی مرّتْ سُدى ً و لا شَیء یُطْفئ نارَ الحَنین

سُدى ً قدْعَبرْتُ صَحاری الوُجود سُدى ً قد جَررْتُ قیودَ السنین

یَطول ُ على قَلبی الاْنتظار و أغْرقُ فی بَحْرِ یأسٍ حَزین

أحاوِلُ أنْ أتعَزّى بشیء ٍ بغابٍ ، بوادٍ ، بظَلّة تین

دقائقَ ثُمّ أخیْبُ و أهْتِف لا شیءَ یُشْبِه یوتوبیا

( دیوان .ج.2 .ص.5٤ ).

أسدى الأمر :أهمله .ذهب كلامه سدى :باطلاً . تعّزى : تسلّى و تصبّر

خاب یخیبُ : لم یظفر بطلب، انقطع أمله

عندما تفشل فی محاولتها للبحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة و مضت الحیاة باطلة وسدى و الزمان كلّه قیود تثقل علیها والهموم و الأحزان كأمواج البحر یغرقها فتنتظر دائما لتتخلّص من الكآبة الموجودة داخل نفسها و فی حیاتها - كانت الشاعرة فی هذا الأوان متشائمة أشدّ التشاؤم - وهذا كلّه ممّا یجعلها إلى الهروب، الهروب إلى الطبیعة لتتعزّى فیها بشیء، بغابة، بوادٍ، أو بظلّة تین لتستریح لدقائق.؛ فتصل إلى هذه النتیجة أنّ عالم الیوتوبیا، عالم الخیال شیء لا مثیل له. و ‌ظلت تحلم بحالة مقبلة تبدو علیها الأشیاء فی صورة أكمل و أحیانا تبنى عالمها هذا بعیدا عن الناس حیث لا یسكن فیه أحد و خالٍ عن الإنسان و تبناه فی:

    فَوقَ البِساط ِالسّفْح بینَ التّلالْ
    فی المُنْحنى حیثُ تَموجُ الظّلالْ
    تَحتَ امْتداد ِالغُصونْ
    تفجّری بالجَمالْ
    وَشَیّدیْ یوتوبیا فی الجبالْ
    یوتوبیا منْ شَجَراتِ القِممْ
    ومنْ خَریْرِ المیاهْ
    یوتوبیا من َنَغمْ
    (دیوان ج.2.ص.155).

شیَّدَ البناء : رَفعَه . القِمَم ج القمّة أعلى كلّ شیء . النَّغَم : التطریب فی الغناء و حسن الصوت .

ترید الشاعرة أن تصنع عالمها فی التلال فوق سفح الجبال ، بین الظّلال الموجودة تحت أغصان الأشجار الشاهقة و من الأنغام و الصوت الحسن الذی فی خریر المیاه.

و من میزات عالمها المثالی كما تصفه الشاعرة لنا هی:

وشَیّدیْ یُوتُوبِیا منْ قُلوبْ منْ كلّ قلبٍ لمْ تَطأه الحقودْ

ولمْ تُدنّسْهُ أكُفُّ الرّكودْ منْ كلّ قلبٍ شاعریّ عَمیقْ

لم َیتمرّغْ بخطایا الوجود ْ ومنْ كلّ قلبٍ لا یُطیقُ الجُمودْ

( دیوان .ج.2.ص.157).

أكفّ ج الكفّ الید أو الراحة مع الإصبع . أطاق الشیءَ : قدر علیه .

وطىء یطأ وطأً الشیءَ برِجْله: داسَه

.وتعتقد أنّ الیوتوبیا لابدّ أن تشید فی باطن الإنسان و فی قلبه، القلب الذی لیس له أیّ حقد و ركود، من قلب شاعریّ لم یرتكب أیَّ خطأ وهو عمیق ولیس سطحیا و لم یقدر الجمود علیه حتى یكون نابضا بحرارة للعالم البشری. نعم؛ للانسان أن یهرب من الحقیقة و الواقع المرّ الذی یفرض علیه الألم و الأسر و یعتصم بالخیال حیث یلاقی هناك عالم النقاء والطهر و العالم الذی یحبّه كما یرید؛ هذا شأن الرومنسی و من حیث تتّصل نازك إلى هذا المكتب، و فضلا عن ذلك من أجل انثویتها یتشدّد هذا الموضوع و تتّصل بعالم المثل حینما ترى قصور العقل الإنسانی عن إدراك كثیر من الألغاز و الأسرار الموجودة فی الحیاة و ماوراءها و فلسفة الكون أو عندما تجد نفسها فی محاصرة الأحزان تدفع بها إلى حالة من التأمل و المعاناة أو حین كل ما ترى فی المجتمع حولها یناقض الحیاة فتحسّ بخواء أعماقها العاطفیة و تحاول للبحث عن معنى للوجود الإنسانی و تؤمن بعبثیة الحیاة و أنّ الإنسان لعبة بین مخالب الأقدار و بید الفلك فی حیاة كلّها خیبة آمال و سقوط.

إذن لا غرو أن تبنى أمنیاتها و أحلامها فی عالم لایوجد مثل هذه القضایا و تبنى لنفسها العالم المثالی الذی تتخیّله و تحبّ أن تعیش فیه و تعتصم به؛ فتعشق الدجى و الظلام و ما هو إلّا الخیال الذی تلوذ به و تثور على الشمس التی هی رمز للحقیقة فی قصیدتها " ثورة على الشمس" و تهدیها إلى المتمرّدین:

یا شمسُ ، أما أنتِ ماذا؟ما الذی تَلْقاهُ فیك عَواطِفی و خَواطری؟

لا تَعْجبیْ أن كنْتُ عاشِقةَ الدّجَى یا ربّةَ الّلَّهبِ المُذیبِ الصّاهِر

یا منْ تُمزّقُ كُلّ َ حُلم ٍ مُشْرقٍ للْحالمینَ و كلّ طَیفٍ سَاحر

یا من ْ تُهدّم ُ ما تُشَیّده ُ الدّجَى و الصّمْت ُ فِی أعْماقِ قلْبِ الشّاعرِ

( دیوان .ج.1 ص.490).

اللَّهَب : حرّ النار ، لسان النار صَهر الشیءَ : أذابَه.

حلم : ما یراه النائم فی نومه ج.أحلام طیف : الخیال الطائف فی النوم.

بعد بناء عالمها المثالی ، غیر عالم الواقع الذی سئم العیش فیه ، تثور علیه؛ لأنّها تشاهد من حولها فی الحیا ة و فی المجتمع شرورا ومعاصی وآثاما فیكتئب قلبها و تهرب من الشمس التی هی رمز الحقیقة؛ لأنّها تبید حلمها المشرق و طیفها الساحر و تهدّم كلّ ما تشیّده الدّجى و الصمت فی أعماق قلب الشاعرة.

ومما لا بد أن یؤخذ بعین الاعتبار، أنِ الشاعرة كانت متشائمة شدیدة التشاؤم فی بدایة حیاتها الشعریة؛ لأنها كانت مفعمة باتجاهات الرومنسیة و غلب علیها التشاؤم المطلق و كانت تشعر بالضیق و الألم و لاترى غیر الأزمة و الشقاء فی الحیاة و أنّ الحیاة كلّها ألم و إبهام و تعقید؛ و لكن تدریجیاغیّرت نظرتها حول الموت و فلسفة الحیاة و بدأت تنظر إلى الحیاة بمنظار جدید فیه مسحة من التفاؤل لیكون بلسما لدائها و مرهما لشفائها و نرى هذا التغییر حتّی فی عنوان مطوّلتها من" مأساة الحیاة" إلى " أغنیة للإنسان " فی الواقع آراؤها المتشائمة قد زالت و حلّ محلّها الإیمان بالله و الاطمئنان إلى الحیاة و جوّ مأساة الحیاة تبدّد شیئا فشیئا؛ وقد عبرت عن تمسّكها بالحیاة فی هذه الحیاة الدنیا لأنّ حبّ الحیاة أمر لا ینفصل عن الحیاة نفسها و أنّ الإنسان یجد لذّة كبرى فی أن یحیاها مهما كان طبعها و صعدت من إحساسها بالیأس و العدم إلى قمّة الرجاء و الأمل و آمنت بأننا یجب أن نستسلم للقدر خاضعین و أنّ العالم یواصل سیرته حتى بدوننا و آمنت بأنّ الإنسان مهما یفكّر فی آلامه و آلام أبنائه و مواطنیه و المجهولات و الأسرار و الألغاز، فلكن یجب ألّا یعكس الیأس و القنوط و الألم فقط، بل یجب أن یكون للتفاؤل مكانه.

ومهما یتأمّل الإنسان فی هذه القضایا فلا بدّ ألّا ینصرف عن الحیاة لأنّه لم یجئ إلى الحیاة لیشقى و یصبّ الهموم على نفسه بل أتاها لیتنعّم بها و أن یكون مسلكها تجاه الحیاة و فلسفتها إیجابیّا و ینظر إلیها بمنظار التفاؤل و لتكن فلسفتها الابتسام دائما مادام حیّا و ینتهز فرصة الحیاة قبل أن تفلت من یده.

رسمت الشاعرة لنفسها هذا العالم الذی فرض على نفسها لتعیش فیه؛ لأن ّالعالم الواقع عالم ملیء بالأحزان و الآلام والحیاة فیه جافّة و باردة و لامعنى للعیش فیه و یجب استقبال الموت .و تنفر من كلّ شیء و تحسّ بالسآمة حتى فی التفكیر و البقاء. وإذا تطرّفنا الی أشعارها رأینا أنّ روح التشاؤم سرت فی نفسیتها، و فی نفسها نوع من الیأس و التشاؤم الذی قد تسرّب فی كلماتها و لغاتها .و قد آل بها المطاف أن تتضجّر من كل شیء موجود فی حیاة الواقع و تعیش فی الیوتوبیا.

المراجع والمصادر

1) احسان عباس ،فن الشعر، دار الثقافة، بیروت .1959 م.

2) احمد ملكی الطاهر، الشعر الحر، دار المعارف.

3) احمد ملكی الطاهر، فی الأدب المقارن، دار المعارف ،الطبعة الثانیة ،1992 م.

٤) سید حسینی رضا، مكتب های ادبی، انتشارات نگاه، چاپ یازدهم، 1376 ه.ش.

5) شفیعی كدكنی مخمد رضا، شعرای معاصر عرب، تهران، توس ،1359.ه.ش.

6) د.شوقی ضیف، فصول فی الشعر و نقده، دار المعارف بمصر.

7) العلمی الادریسی، رشید،.مقالة الیوتوبیا، بین الخیال المتعالی و تقدّم الإنسانیة

8) غنیمی هلال محمد، الرومانتیكیة، دار النهضة بمصر.

9) محمد فتوح احمد، الرمز و الرمزیة فی الشعر المعاصر.

10) مجلة الشعر، مجلة فصلیة مصریة العدد 1٤، ینایر 1986 م.

11) نازك الملائكة ،دیوان، دار العودة، بیروت، لبنان.

12) نازك الملائكة، قضایا الشعر المعاصر، دار العلم للملایین، الطبعة الثانیة، 1989 م.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:48|