ابزار وبمستر

نزعة الحریة عند شعراء العراق المحدثین
نزعة الحریة عند شعراء العراق المحدثین



لا یفوت قارئ الشعر الحدیث فی العراق أن یلاحظ ملاحظة هی غایة فی الأهمیة، تلك الظاهرة التی تستفزه وتثیر انتباهه حتى وإن تغافل عنها هو ألا وهی النزوع إلى الحریة وإباء الضیم والثورة على الواقع المتردی وعلى نمط الفكر والحیاة، إنها نفوس رهیفة الحس، تنفجر منها براكین تململ وتمرد فتسیل حممها من كل بیت ومن كل سطر حتى لتهدد تلك الحمم بأن تحرق القارئ وتكلفه من الأمر عنتا.

وفی میل العراقیین إلى التمرد وإبائهم الجور ونزوعهم إلى الحریة سبب قوی حتم ذلك یعود إلى تاریخ البلاد الذی أبى فی ماضیه العریق الضیم منذ عهد البابلیین وصراعهم ضد الفارسیین ثم العبرانیین وصولا إلى الإسلام وما لاقاه الإمام علی من تمرد لأسباب سیاسیة انتهت به مقتولا فی الكوفة ثم تمرد العراقیین على دولة بنی أمیة وإشعالهم فتن الثورة هنا وهناك لولا حزم الحجاج وعزمه على إخماد تلك الفتن بحد السیف وأنهار الدم التی سفكت وقد حدثنا عنها التاریخ بإسهاب كبیر.

ولا تختلف قصة العراق الحدیث عن العراق القدیم فالبلد الذی أسماه أسلافنا" أرض السواد" على سبیل الكنایة عن كثرة نخیله وكثرة رزقه كان لا یعرف الاستقرار فمن اضطراب إلى آخر ومن ثورة إلى أخرى، سواء أكان البلد ملكیا، وقد انتهت الملكیة ذاتها بنهر من الدم وأعلنت الجمهوریة لتزداد الانقلابات والاضطرابات السیاسیة ومن اغتیال سیاسی إلى آخر ومن فتنة إلى أخرى ولا یزال شأن العراق ذلك إلى الیوم.

و العراقیون على اختلاف نحلهم وأطیافهم السیاسیة یمقتون الضیم ویأبون الخسف ویثورون على الجور وینزعون إلى الحریة فی الفكر والحیاة، وقد شاء حظهم التعس أن ینكبوا بالمتسلطین فی الحكم وكأن قدرهم هو الهیمنة علیهم سواء من بنی جلدتهم أو من الأجانب ولا یتخلصون من عدو بالدم والنار إلا نكبوا بآخر ولعل هذا ما عناه الشاعر محمد مهدی الجواهری:

1- ولقد رأى المستعمرون منا فرائسا

[!ورأوا كلب صید سائبا!] 2- فتعهدوه فراح طوع بنانهم

[!یبرون أنیابا له ومخـــــــــالبا!] 3- أعرفت مملكة یباح شهید ها

[!للخائنین الخادمین أجانبا؟!] 4- مستأجرین یخربون دیارهم

[!ویكافأون على الخراب رواتبا!!]

ولعل نزعة التمرد ونقمة الثورة أظهر ما تكون فی هذا الشاعر بالذات الذی ذاق مرارة التشرید وألم المنافی غیر أن هذا كله لم یثنه عن النضال فی سبیل حریته وحریة شعبه ألم یقل الجواهری منددا بسكوت الشعب منكرا علیه عبودیته:

لم یعرفوا لون السمــــــاء

[!لفرط ما انحنت الرقاب!] و لفرط مادیست رؤوسهم

[!كما دیــــــــــس التراب!] وفی مطولته " تنویمه الجیاع " صب جام غضبه على الرعیة الساكتة على جبروت الحاكم المستسلمة لظلمه المفرطة فی حریتها وكرامتها وفی هذه القصیدة نزع الشاعر منزع السخریة تنفیسا عن غیظه وبلسمة لجرحه العمیق:

نامی جیاع الشعب نامی

[!حرستك آلهة الطعام!] نامی فجدران السجون

[!تعج بالموت الزؤام!] نامی على جوركما

[!وقع الحسام على الحسام!] أعطی القیادة للقضاء

[!وحكمیه فی الزمام!] واستسلمی للحادثات

[!المشفقات على النیام!] وأما شعراء التفعیلة ورواد الشعر الحدیث فقد تبنوا خطا عروبیا ومسارا قومیا نزعوا فیه إلى حریة بلدهم وحریة الوطن العربی وثورته على الاستعمار الأوروبی الذی اقتسم البلاد العربیة ونهب خیراتها وتفرق أبناء الوطن شذر مذر أو ذهبوا أیدی سبأ وقد التزم هؤلاء الشعراء بقضیة الحریة وتحدیدا الحریة السیاسیة وأشهر شعراء العراق فی هذا المضمار نازك الملائكة وعبد الوهاب البیاتی وبدر شاكر السیاب.

ولنازك الملائكة قصیدة "الشهید" وهی من أجود شعرها تحی فیها روح البسالة فی الشهید والثبات على المبدأ والإصرار على الكرامة إنها هبة الدم الزكی فی سبیل حریة الوطن وعزة أبنائه:

حسبوا الإعصار یلوى

إن تحاموه بستر أو جدرا

و رأوا أن یطفئوا ضوء النهار

غیر أن المجد أقوى

ومن القبر المعطر

لم یزل منبعثا صوت الشهید

طیفه أثبت من جیش عنید

جاثم لا یتقهقر

وقد اشتهر السیاب بقصائده المؤیدة للثورة الجزائریة لأنها ثورة عربیة فی الأساس بل ثورة انسانیة، وكان البیاتی كالسیاب فی نصرة قضایا الحریة لیس فی العراق وحده بل فی العالمین العربی والأعجمی، وقصیدته عن "جمیلة بوحیرد" مشهورة، وتندیده بالعدوان الثلاثی على مصر موقف شهم وإنسانی وقومی مأثور.أما السیاب فیقول فی قصیدة "المغرب العربی" مباركا الثورة على الاستبداد والظلم:

وكان یطوف من جدی

مع المد

هتاف یملأ الشطآن یا ودیاننا ثوری

أیا إرث الجماهیر

تشظ الآن واسحق هذه الأغلال

وكالزلزال

تحد النیر أو فا سحقه واسحقنا مع النیر

وأما البیاتی فیقول فی العدوان الثلاثی على مصر (البریطانی،الإسرائیلی، الفرنسی)

على جبین الشمس بورسعید

مدینة شامخة الأسوار

شامخة كالنار كالإعصار

فی أوجه اللصوص

لصوص أروبا من التجار من مجرمی الحروب

وشاربی الدماء

وأما الحریة الفكریة فلشعراء العراق قصب السبق فی المطالبة بها، فلقد نعوا على الإنسان جموده وتقلیده كما نددوا بالقهر الفكری ولعل الشاعر جمیل صدقی الزهاوی خیر من یمثل هذا الاتجاه وما نزع الشاعر إلى العلم إلا فرارا من الجهل وبعدا عن الخرافة وتشفیا فی أمس عقیم سیطر فیه الجهل وحكم فیه الدجل وأظهر ما تظهر فیه هذه النزعة فی مطولته "ثورة فی الجحیم" وهی مطولة تنحاز إلى الفكر الحر وتثور على ثقافة العامة وتنعى علیهم الاستسلام والخنوع، وإذا كان الفكر الحر ینتهی بصاحبه إلى الخروج على السائد والمألوف ویجعل منه مضغة فی الأفواه ویرمی فی دینه وعقله وعرضه، بل ربما یدفع حیاته ثمنا لإصراره على حریة فكره حتى ینتهی به الأمر إلى الجحیم، فترى الشاعر یرحب بهذا المصیر مادام فی صحبة سقراط ودیكارت ونیوتن وهوغو ولامارتین وأبی نواس وكل أفذاذ الإنسانیة وأنصار الفكر الحر، وما ترجمة الزهاوی "لرباعیات الخیام" إلا تأكید على مبدأ الحریة الفكریة وقد كان الخیام من أكبر أنصارها وفی الرباعیات مقاطع تنتصر لهذا المبدأ على الرغم من تبعاته النفسیة والاجتماعیة والفكریة.

ولقد دافع الزهاوی عن العقل فی شعره دفاعا مستمیتا على الرغم من وصمه بالزندقة والمروق عن الدین وما لاقاه من مضایقات العامة وعنتهم وأنصار الثقافة الرسمیة إلى الحد الذی جعل شعره خالیا من الدفق العاطفی والحرارة الوجدانیة وهو ما أخذه علیه نقاد الشعر، وتحیزه للعقل وللفكر الحر واضح جلی یعبر عنه هذان البیتان:

غیر أنی أرتاب من كل ما قد

[!عجز العقل عنه والتفـكیر!] لـــم یكن فی الكتاب من خطأ

[!كلا ولكن قد أخطأ التفسیر!] والشاعر معروف الرصافی كان فی شعره كما كان فی حیاته مثلا للاستبسال فی الدفاع عن الحریة ضد القهر السیاسی والفكری وقد أعطى بحیاته المستقیمة وخصاصته المثل للمثقف الذی یأبى أن یبتذل عرضه لقاء أی عرض من أعراض الدنیا وهو القائل:

كتبت لنفسی عهد تحریرها شعرا

[!وأشهدت فیما كتبت لهــــا الدهـرا!] ومن بعد إتمــامی كتـــــابة عهدها

[!جــعلت الثریا فوق عنوانه طغرا!] وعـــلقته كیــــلا تنــــالـــه یـــــــد

[!بمنبعث الأنوار من ذروة الشعرى!]

وقد خاطب الحریة أجمل خطاب:

أحریتی إننی اتخــذتــــك قبــلة

[!أوجـــه وجهی كل یوم لها عشرا!] وأمســــك الــــــركن مستســلما

[!وفی ركنها استبدلت بالحجر الحجرا!] إذا كـــنت فی قفر تخذتك مؤنسا

[!وإن كنت فی لیل جعلتك لی بدرا!] وإن لامنی خطب ضممتك لاثما

[!فقبلت منك الصدر والنحر والثغرا!] وإن لامنی قوم علیك فإننی

[!لملتمس للقوم من جهلهم عذرا!] واقرأ هذه الأبیات وقدر ما فی نفس الشاعر من غضب إنها صرخة فی وجه الاستبداد الذی عاث فی البلد فسادا ودجن الناس ونهب أرزاقهم وكمم أفواههم ولقد حالت الكلمات هنا حمما ناریة تسفع الجلود وتلهب النفوس وتحرض الناس على الثورة لقاء حریتهم المهضومة:

أما أسد یحمی البلاد غضنفر

[!فقد عاث فیها بالمظالم سیدها؟!] عجبت لقوم یخضعون لدولة

[!یسوسهم بالموبقات عمیدها!] وأعجب من ذا أنهم یرهبونها

[!وأموالهم منها ومنهم جنودها!!] ولقد جر التحمس للعقل والإیمان بالفكر الحر الشاعر أحمد الصافی النجفی إلى الإقبال على كل فكر والاغتراف من كل نبع والأكل من كل مائدة فكریة ذلك أن القهر الفكری الذی عاناه أسلافه والسیاج الدوغمائی الذی أجبروا على الإقامة داخله قرونا قد عفن نفوسهم وأصاب بالبلى عقولهم وبالصدأ قلوبهم فلیتشف الشاعر من ذلك القهر بالإقبال على الأفكار الجدیدة والعقائد الوافدة یحتضنها وینزلها من نفسه منزلة الحقائق حتى إذا شك عقله فیها اطرحها وطلب غیرها وكأنه نحلة حوامة تطیر من روض إلى روض وتشرب الرحیق من كل زهرة ولو أدى ذلك إلى عذاب الشك وجحیم التناقض ولكن لا بأس فالحریة أغلى مكسب:

تناقضت الأفكار عندی كأنما

[!أنا جمع أشخاص وما أنا واحد!] أرى كل فكر حل عقلی بوقته

[!صحیحا وفكر وقته مر فاسد!] فكم ذرة تفنى وتولد ذرة

[!بجسمی كما تحیا وتفنى العقائد!] فلی كل حین مأتم وولادة

[!وشخصی مولود وشخصی والد!]

ولا نعجب إذا رأینا شاعرا كبیرا بحجم بدر شاكر السیاب یتبنى الشیوعیة مسفها أحیانا الأدیان ثائرا فی وجه الحاكم، ناقما على الظروف قهرها وجبرها، فقد كانت تلك الثورة بحثا عن الحریة فی الأساس، فالفقر والخصاصة قید یغل الإنسان ویرهن حریته وربما اضطره إلى ابتذال كرامته وشرفه لقاء لقمة یتبلغ بها،لقد كانت یساریتة كما كانت یساریة غیره المتطرفة ثأرا من الظروف وتندیدا بهذا القهر التاریخی الذی یحد من الحریة بل یشظیها، حتى إذا اكتشف الشاعر أن الشیوعیة ذاتها لا تخلو من عیوب وأنها قهر آخر یمارسه الحزب عبر قادته وأمنائه، طلقها الشاعر إیثارا لمرونته الفكریة وتعطشه للحریة الإنسانیة التی ظل یحلم بها ویبحث عنها كما ظل أورفیوس یبحث عن زوجته فی عالم الموتى.

ولیس أدل على نزوع شعراء العراق منزع الحریة وإیثار المرونة الفكریة وحریة المناورة من إحداثهم تلك الثورة فی الشعر الحدیث فقد ظل الشعر إلى الأربعینات من القرن الماضی شعرا كلاسیكیا فی ملمحه العام یسیر على طریق القدماء ویسلك طریق المتنبی وأبی تمام والبحتری فی توخی الألفاظ الفخمة والمدویة واقتناص الحكم والتشبیهات البدیعة والاستعارات غیر المسبوقة، ذلك ما عهدناه فی شعر البارودی وشوقی وحافظ، غیر أن شعراء العراق واستجابة لنداء المغامرة ودعوة الحریة فی أنفسهم وهی دعوة فطریة كامنة فیها، ضاربة بجذورها فی غور التاریخ وبتأثیر من الثقافة الغربیة التی تشجع على الحریة وتعضدها خالفوا المسلك المألوف وتبنوا شعرا جدیدا یستجیب لروح العصر وثقافته وسواء أذهبنا مذهب من یضع السیاب رائد لهذا الشعر بعد صدور قصیدته "هل كان حبا" أو ذهبنا مذهب من یقدم علیه نازك الملائكة بصدور قصیدتها "الكولیرا" فكلا الشاعرین من العراق یؤكدان ما زعمناه من نزعة التمرد والثورة الكامنتین فی أنفسهم وهو نفس النهج الذی سار فیه شعراء العراق الآخرون كعبد الوهاب البیاتی ثم مظفر النواب من بعده.

وهی الحركة الشعریة التی أتت أكلها فتجدد وجه شعرنا لیصبح شابا طافحا بالقوة والمناعة مستجیبا لروح العصر وفلسفته متخلیا عن طرائق الماضی وأشكاله التعبیریة شكلا ومضمونا وكانت تلك الثورة المستجیبة لنداء عمیق فی النفس العراقیة هو نداء الحریة سببا قویا فی استجابة شعراء العالم العربی لهذه الحركة فما هی إلا سنوات قلائل حتى صار شعر التفعیلة حدثا فكریا وفنیا وجمالیا مشمخر الصروح وطید الأركان، غالب على أمره له شعراؤه الكبار فی العالم العربی كمحمود درویش وسمیح القاسم وأمل نقل وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطی حجازی وأدونیس ونزار قبانی وغیرهم.

وإنه لیحز فی النفس ما آل إلیه العراق الیوم عراق البابلیین وحدائقهم المعلقة وعراق الرشید والأمین والمأمون ودار الحكمة وعراق " أرض السواد" والرافدین وكان بود كل عربی أن یظل العراق فی طلیعة البلدان العربیة حركة فكریة وشعریة وعلمیة واصلا الحاضر الزاهر بالماضی التلید لولا نكد السیاسة وتآمر المطامع الإمبریالیة على حاضر ومستقبل هذا البلد الذی نأمل لها أن تقبر فی هذا البلد الكریم، بفضل وحدة ووعی ونضال الشعب العراقی الذی سیعید وجه دار السلام الخالد الخلاق والمتألق كما عهدناه بالأمس القریب والبعید.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 21:38|