وُلد فی الرابع عشر من شهر نوفمبر سنة 1889، فی 'عزبة الكیلو'
قرب مغاغة، بالصّعید المصری الأوسط، ونشأ فی الریف ضعیف البنیة كأنّه
'الثُّمامة'، لا یستطیع ما یستطیعه النّاس، ولا ینهض من الأمر لما ینهض له
النّاس، ترأف به أمّه دائما وتهمله أحیانا، ویلین له أبوه تارة ویزور عنه
طورا، ویشفق علیه إخوته إشفاقا یشوبه احتیاط فی معاملتهم إیّاه، وشیء من
الازدراء.
توفّی فی الثّامن والعشرین من شهر أكتوبر سنة 1973 بالقاهرة، وقد استطاع ما لم یستطعه كثیر من المبصرین، فتناقلت خبر وفاته العواصم وحزن لفقدانه الأدباء والباحثون والعلماء.
'أخذ العلم بأُذُنَیْه لا بأصابعه' فقهر عاهته قهرا، محروما یكره أن یشعر بالحرمان وأن یُرَى شاكیا متبرّما، جادّا متجلّدا مبتسما للحیاة والدّرس والبحث، حتّى انتهى غلى حال العلماء المبَرَّزِینَ ومراتب الأدباء المفكّرین، فشغل النّاس ولن یزال.
فقد بصره طفلا : 'اصابه الرّمد فأُهمل أیّاما، ثمّ دُعی الحلاّق فعالجه علاجا ذهب بعینیه'. وحفظ القرآن فی كُتّاب القریة وهو فی التّاسعة، فأصبح 'شیخا'، كذا كان أبوه یدعوه، وأمّه، 'وسیّدنا' مؤدّب الصّبیان.
وقدم القاهرة سنة 1902 للتعلم فی الأزهر، فدخله والقلبُ ممتلئ خشوعا والنّفس ممتلئة إجلالا. وأنفق فیه ثمانی سنین لم یظفر فی نهایتها بشهادة 'العالمیّة'، لأن 'القوم كانوا مؤتمرین به لیسقطوه' ! نبأ عجیب حمله غلیه شیخه سیّد المرصفی لیلة الامتحان، بعد أن صُلِّیَتِ العِشَاءُ... وفارق الأزهر وقد ارابه منه أمر، شدید الضّیق به وبأهله. وخاب أمل أبیه، فلن یرى ابنه من بین علماء الأزهر ولا 'صاحب عمود فی الأزهر ومن حوله حلقة واسعة بعیدة المدى' وأُتیحتْ للفتى حیاة أخرى...
فما إن أُنشئت الجامعة المصریّة (الأهلیة) سنة 1908 حتّى انتسب إلیها الطّالب الأزهری، ولكنّه ظلّ مقیّدا فی سجلاّت الأزهر : وقضى سنتین (1908-1910) یحیا حیاة مشتركة، یختلف إلى دروس الازهر مصبحا وإلى دروس الجامعة مُمْسِیًا. وما لبث أن وجد فی الجامعة روحا للعلم والبحث جدیدة و'طعما للحیاة جدیدا' فشغف بالدّرس والتّحصیل حتّى نال درجة 'العالمیّة' (الدكتوراه) سنة 1914 برسالة موضوعها 'ذكرى أبی العلاء'، فكانت 'أوّل كتاب قُدّم إلى الجامعة، وأوّل كتاب امتُحِنَ بین یدی الجمهور، وأول كتاب نال صاحبه إجازة علمیّة منها'.
ثمّ سافر الفتى إلى فرنسا لمواصلة التّعلّم، فانتسب إلى جامعة مونبیلیى حیث قضّى سنة دراسیّة (1914-1915) ذهب بعدها إلى باریس، وانتسب إلى جامعة السّوربون حیث قضى أربع سنوات (1915-1919). وما كاد یختلف إلى دروس التاریخ والأدب فیها 'حتّى أحسّ أنّه لم یكن قد هیّئ لها... وأنّ درسه الطویل فی الأزهر وفی الجامعة (المصریّة) لم یهیّئه للانتفاع بهذه الدّروس'. فأقبل على قراءة الكتب المقرّرة فی المدارس الثانویّة، ولم یجد بدّا من أن یكون 'تلمیذا ثانویا فی بیته وطالبا فی السّوربون'.
أرسل لیدرس التّاریخ فی السّوربون، فما لبث أن أیقن بأنّ الدرجات العلمیّة لا تعنی شیئا إن هی لم تقم على أساس متین من الثقافة. ولیس غلى ذلك من سبیل سوى إعداد 'اللیسانس'. وقد صرّح بذلك فی الجزء الثالث من كتاب الأیّام، قال : 'كان (الفتى' قد أزمع أن یظفر قبل كل شیء بدرجة 'اللیسانس' ثم یتقدّم لدرجة الدكتوراه بعد ذلك. ولم یكن الطلاّب المصریون - إلى ذلك الوقت - یحاولون الظفر بدرجة اللیسانس هذه، لأنّها كانت تكلّف الذین یطلبونها عناء ثقیلا'.
وأحرز طه حسین درجة 'اللیسانس فی التّاریخ' سنة 1917، فكان أوّل طالب مصرین ظفر بهذه الشهادة من كلیّة الآداب بالجامعة الفرنسیّة.
إنّ أمر هذا الفتى عَجَبٌ ! فهو قد كان یتهیّأ لامتحان اللیسانس ویعدّ فی المدّة نفسها رسالة 'دكتورا جامعة' باللّغة الفرنسیّة موضوعها : 'دراسة تحلیلیّة نقدیّة لفلسفة ابن خلدون الاجتماعیّة' (Etude analytique et critique de la philosophie sociale d'Ibn Khaldoun).
إنّ أمر هذا الفتى عجب ! فهو لم یكد یفرغ من امتحان الدكتورا حتّى نشط لإعداد رسالة أخرى، فقد صحّ منه العزم على الظفر 'بدبلوم الدّراسات العلیا' (Diplôme d'Etudes Superieures) وهو شهادة یتهیّأ بها أصحابها للانتساب إلى دروس 'التبریز فی الآداب'. وما هی إلاّ أن أشار علیه أُستاذه بموضوع عسیر مُمْتع مریر، وهو : 'القضایا التی أقیمت فی روما على حكّام الأقالیم الذین أهانوا جلال الشّعب الرّومانی، فی عهد تباریوس، كما صوّرها المؤرّخ تاسیت' (La loi de lèse-majesté, sous Tibère, d'après Tacite) فقبله الطالب 'طائعا قلقا مستخذیا'، ومارسه بالصّبر على مشقّة البحث وبالمثابرة على الفهم حتّى ناقشه ونجح فیه نُجْحًا حسنا سنة 1919.
عاد طه حسین إلى وطنه، فلم تُمهله الجامعة المصریّة وعیّنته مباشرة أستاذا للتاریخ القدیم (الیونانی والرّومانی)، فظلّ یُدرّسه طیلة ستّ سنوات كاملات (1919-1925).
بعد اكثر من قرن كامل على میلاده، و27 عاما على وفاته، ما زال عمید الادب العربی الدكتور طه حسین احد الاركان الاساسیة فی تكوین العقل العربی المعاصر، وصیاغة الحیاة الفكریة فی العالم العربی، وملمحاً أساسیاً من ملامح الادب العربی الحدیث... بل ان الاجیال الجدیدة من ابناء الامة العربیة لا تزال تكتشف جوانب جدیدة من القیمة الفكریة والانسانیة لاحد رواد حركة التنویر فی الفكر العربی... وما زالت اعمال طه حسین ومعاركه الادبیة والفكریة من أجل التقدم والتخلی عن الخرافات والخزعبلات التی حاصرت وقیدت العقل العربی لعدة قرون، من اهم الروافد التی یتسلح بها المفكرون العرب فی مواجهة الحملات الارتدادیة التی تطل برأسها فی عصرنا.
وما زالت السیرة الذاتیة لطه حسین وما تجسده من كفاح انسانی وفكری مدرسة هامة ما اشد حاجة الاجیال الجدیدة للتعلم منها والتأمل فیها.
من عزبة صغیرة (اصغر من القریة) فی صعید مصر بدأت رحلة طه حسین، فقد ولد عمید الادب العربی فی تلك البقعة الصغیرة التی تقع على بعد كیلو متر واحد من مغاغة بمحافظة المنیا فی وسط صعید مصر... كان ذلك فی الرابع عشر من نوفمبر عام 1889م، وكان والده حسین علی موظفاً فی شركة السكر وانجب ثلاثة عشر ولداً كان سابعهم فی الترتیب 'طه' الذی اصابه رمد فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعینیه (كما یقول هو عن نفسه فی كتاب 'الایام').
وفی عام 1898 وبینما لم یكن قد اكمل السنوات العشر كان طه حسین قد اتم حفظ القرآن الكریم... وبعد ذلك بأربع سنوات بدأت رحلته الكبرى عندما غادر القاهرة متوجها الى الازهر طلباً للعلم. فی عام 1908 بدأت ملامح شخصیة طه حسین المتمردة فی الظهور حیث بدأ یتبرم بمحاضرات معظم شیوخ الازهر فاقتصر على حضور بعضها فقط مثل درس الشیخ بخیت ودروس الادب... وفی العام ذاته انشئت الجامعة المصریة، فالتحق بها طه حسین وسمع دروس احمد زكی (باشا) فی الحضارة الاسلامیة واحمد كمال (باشا) فی الحضارة المصریة القدیمة ودروس الجغرافیا والتاریخ واللغات السامیة والفلك والادب والفلسفة على اساتذة مصریین واجانب.
فی تلك الفترة اعد طه حسین رسالته للدكتوراه نوقشت فی 15 أیار 1914م. هذه الرسالة (وكانت عن ذكرى ابی العلاء) اول كتاب قدم الى الجامعة واول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصریة، واول موضوع امتحن بین ایدی الجمهور.
ومثلما كانت حیاته كلها جرأة وشجاعة واثارة للجدل فقد احدث نشر هذه الرسالة فی كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت الى حد طلب احد نواب البرلمان حرمان طه حسین من حقوق الجامعیین 'لأنه الف كتابا فیه الحاد وكفر'!، ولكن سعد زغلول رئیس الجمعیة التشریعیة آنذاك اقنع النائب بالعدول عن مطالبه.
الرحلة الثانیة
اذا كانت الرحلة الاولى ذات الاثر العمیق فی حیاة طه حسین وفكره هی انتقاله من قریته فی الصعید الى القاهرة... فإن الرحلة الاخرى الاكثر تأثیراً كانت الى فرنسا فی عام 1914 حیث التحق بجامعة مونبلییه لكی یبعد عن باریس احد میادین الحرب العالمیة الاولى... وهناك درس اللغة الفرنسیة وعلم النفس والادب والتاریخ. ولاسباب مالیة اعادت الجامعة المصریة مبعوثیها فی العام التالی 1915 لكن فی نهایة العام عاد طه حسین الى بعثته ولكن الى باریس هذه المرة حیث التحق بكلیة الاداب بجامعة باریس وتلقى دروسه فی التاریخ ثم فی الاجتماع حیث اعد رسالة اخرى على ید عالم الاجتماع الشهیر 'امیل دوركایم' وكانت عن موضوع 'الفلسفة الاجتماعیة عند ابن خلدون' حیث اكملها مع 'بوجلیه' بعد وفاة دوركایم وناقشها وحصل بها على درجة الدكتوراه فی عام 1919م ثم حصل فی العام ذاته على دبلوم الدراسات العلیا فی اللغة اللاتینیة، وكان قد اقترن فی 9 اغسطس 1917 بالسیدة سوزان التی سیكون لها اثر ضخم فی حیاته بعد ذلك.
فی عام 1919 عاد طه حسین الى مصر فعین استاذاً للتاریخ الیونانی والرومانی واستمر كذلك حتى عام 1925 حیث تحولت الجامعة المصریة فی ذلك العام الى جامعة حكومیة وعین طه حسین استاذاً لتاریخ الادب العربی بكلیة الآداب.
أولى المعارك
رغم تمرده على الكثیر من اراء اساتذته الا ان معركة طه حسین الاولى والكبرى من اجل التنویر واحترام العقل تفجرت فی عام 1926 عندما اصدر كتابه 'فی الشعر الجاهلی' الذی احدث ضجة هائلة بدأت سیاسیة قبل ان تكون ادبیة. كما رفعت دعوى قضائیة ضد طه حسین فأمرت النیابة بسحب الكتاب من منافذ البیع واوقفت توزیعه... ونشبت معارك حامیة الوطیس على صفحات الصحف بین مؤیدین ومعارضین لهذا الكتاب.
وفی عام 1928 وقبل ان تهدأ ضجة كتاب الشعر الجاهلی بشكل نهائی تفجرت الضجة الثانیة بتعیینه عمیداً لكلیة الآداب الامر الذی اثار ازمة سیاسیة اخرى انتهت بالاتفاق مع طه حسین على الاستقالة فاشترط ان یعین اولاً. وبالفعل عین لیوم واحد ثم قدم الاستقالة فی المساء وأعید 'میشو' الفرنسی عمیداً لكلیة الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة میشو عام 1930 اختارت الكلیة طه حسین عمیداً لها ووافق على ذلك وزیر المعارف الذی لم یستمر فی منصبه سوى یومین بعد هذه الموافقة وطلب منه الاستقالة.
الازمة الكبرى
وفی عام 1932 حدثت الازمة الكبرى فی مجرى حیاة طه حسین... ففی شباط 1932 كانت الحكومة ترغب فی منح الدكتوراه الفخریة من كلیة الآداب لبعض السیاسیین... فرفض طه حسین حفاظاً على مكانة الدرجة العلمیة، مما اضطر الحكومة الى اللجوء لكلیة الحقوق...
ورداً على ذلك قرر وزیر المعارف نقل طه حسین الى دیوان الوزارة فرفض العمل وتابع الحملة فی الصحف والجامعة كما رفض تسویة الازمة الا بعد اعادته الى عمله وتدخل رئیس الوزراء فأحاله الى التقاعد فی 29 آذار 1932 فلزم بیته ومارس الكتابة فی بعض الصحف الى ان اشترى امتیاز جریدة 'الوادی' وتولى الاشراف على تحریرها، ثم عاد الى الجامعة فی نهایة عام 1934 وبعدها بعامین عاد عمیداً لكلیة الاداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة فی وزارة المعارف حتى عام .1942
ولأن حیاته الوظیفیة كانت دائماً جزءاً من الحیاة السیاسیة فی مصر صعوداً وهبوطاً فقد كان تسلم حزب الوفد للحكم فی 4 شباط 1942 ایذاناً بتغیر آخر فی حیاته الوظیفیة حیث انتدبه نجیب الهلالی وزیر المعارف آنذاك مستشاراً فنیاً له ثم مدیراً لجامعة الاسكندریة حتى احیل على التقاعد فی 16 تشرین الاول 1944 واستمر كذلك حتى 13 حزیران 1950 عندما عین لاول مرة وزیراً للمعارف فی الحكومة الوفدیة التی استمرت حتى 26 حزیران 1952 وهو یوم احراق القاهرة حیث تم حل الحكومة.
وكانت تلك آخر المهام الحكومیة التی تولاها طه حسین حیث انصرف بعد ذلك وحتى وفاته عام 1973 الى الانتاج الفكری والنشاط فی العدید من المجامع العلمیة التی كان عضواً بها داخل مصر وخارجها
توفّی فی الثّامن والعشرین من شهر أكتوبر سنة 1973 بالقاهرة، وقد استطاع ما لم یستطعه كثیر من المبصرین، فتناقلت خبر وفاته العواصم وحزن لفقدانه الأدباء والباحثون والعلماء.
'أخذ العلم بأُذُنَیْه لا بأصابعه' فقهر عاهته قهرا، محروما یكره أن یشعر بالحرمان وأن یُرَى شاكیا متبرّما، جادّا متجلّدا مبتسما للحیاة والدّرس والبحث، حتّى انتهى غلى حال العلماء المبَرَّزِینَ ومراتب الأدباء المفكّرین، فشغل النّاس ولن یزال.
فقد بصره طفلا : 'اصابه الرّمد فأُهمل أیّاما، ثمّ دُعی الحلاّق فعالجه علاجا ذهب بعینیه'. وحفظ القرآن فی كُتّاب القریة وهو فی التّاسعة، فأصبح 'شیخا'، كذا كان أبوه یدعوه، وأمّه، 'وسیّدنا' مؤدّب الصّبیان.
وقدم القاهرة سنة 1902 للتعلم فی الأزهر، فدخله والقلبُ ممتلئ خشوعا والنّفس ممتلئة إجلالا. وأنفق فیه ثمانی سنین لم یظفر فی نهایتها بشهادة 'العالمیّة'، لأن 'القوم كانوا مؤتمرین به لیسقطوه' ! نبأ عجیب حمله غلیه شیخه سیّد المرصفی لیلة الامتحان، بعد أن صُلِّیَتِ العِشَاءُ... وفارق الأزهر وقد ارابه منه أمر، شدید الضّیق به وبأهله. وخاب أمل أبیه، فلن یرى ابنه من بین علماء الأزهر ولا 'صاحب عمود فی الأزهر ومن حوله حلقة واسعة بعیدة المدى' وأُتیحتْ للفتى حیاة أخرى...
فما إن أُنشئت الجامعة المصریّة (الأهلیة) سنة 1908 حتّى انتسب إلیها الطّالب الأزهری، ولكنّه ظلّ مقیّدا فی سجلاّت الأزهر : وقضى سنتین (1908-1910) یحیا حیاة مشتركة، یختلف إلى دروس الازهر مصبحا وإلى دروس الجامعة مُمْسِیًا. وما لبث أن وجد فی الجامعة روحا للعلم والبحث جدیدة و'طعما للحیاة جدیدا' فشغف بالدّرس والتّحصیل حتّى نال درجة 'العالمیّة' (الدكتوراه) سنة 1914 برسالة موضوعها 'ذكرى أبی العلاء'، فكانت 'أوّل كتاب قُدّم إلى الجامعة، وأوّل كتاب امتُحِنَ بین یدی الجمهور، وأول كتاب نال صاحبه إجازة علمیّة منها'.
ثمّ سافر الفتى إلى فرنسا لمواصلة التّعلّم، فانتسب إلى جامعة مونبیلیى حیث قضّى سنة دراسیّة (1914-1915) ذهب بعدها إلى باریس، وانتسب إلى جامعة السّوربون حیث قضى أربع سنوات (1915-1919). وما كاد یختلف إلى دروس التاریخ والأدب فیها 'حتّى أحسّ أنّه لم یكن قد هیّئ لها... وأنّ درسه الطویل فی الأزهر وفی الجامعة (المصریّة) لم یهیّئه للانتفاع بهذه الدّروس'. فأقبل على قراءة الكتب المقرّرة فی المدارس الثانویّة، ولم یجد بدّا من أن یكون 'تلمیذا ثانویا فی بیته وطالبا فی السّوربون'.
أرسل لیدرس التّاریخ فی السّوربون، فما لبث أن أیقن بأنّ الدرجات العلمیّة لا تعنی شیئا إن هی لم تقم على أساس متین من الثقافة. ولیس غلى ذلك من سبیل سوى إعداد 'اللیسانس'. وقد صرّح بذلك فی الجزء الثالث من كتاب الأیّام، قال : 'كان (الفتى' قد أزمع أن یظفر قبل كل شیء بدرجة 'اللیسانس' ثم یتقدّم لدرجة الدكتوراه بعد ذلك. ولم یكن الطلاّب المصریون - إلى ذلك الوقت - یحاولون الظفر بدرجة اللیسانس هذه، لأنّها كانت تكلّف الذین یطلبونها عناء ثقیلا'.
وأحرز طه حسین درجة 'اللیسانس فی التّاریخ' سنة 1917، فكان أوّل طالب مصرین ظفر بهذه الشهادة من كلیّة الآداب بالجامعة الفرنسیّة.
إنّ أمر هذا الفتى عَجَبٌ ! فهو قد كان یتهیّأ لامتحان اللیسانس ویعدّ فی المدّة نفسها رسالة 'دكتورا جامعة' باللّغة الفرنسیّة موضوعها : 'دراسة تحلیلیّة نقدیّة لفلسفة ابن خلدون الاجتماعیّة' (Etude analytique et critique de la philosophie sociale d'Ibn Khaldoun).
إنّ أمر هذا الفتى عجب ! فهو لم یكد یفرغ من امتحان الدكتورا حتّى نشط لإعداد رسالة أخرى، فقد صحّ منه العزم على الظفر 'بدبلوم الدّراسات العلیا' (Diplôme d'Etudes Superieures) وهو شهادة یتهیّأ بها أصحابها للانتساب إلى دروس 'التبریز فی الآداب'. وما هی إلاّ أن أشار علیه أُستاذه بموضوع عسیر مُمْتع مریر، وهو : 'القضایا التی أقیمت فی روما على حكّام الأقالیم الذین أهانوا جلال الشّعب الرّومانی، فی عهد تباریوس، كما صوّرها المؤرّخ تاسیت' (La loi de lèse-majesté, sous Tibère, d'après Tacite) فقبله الطالب 'طائعا قلقا مستخذیا'، ومارسه بالصّبر على مشقّة البحث وبالمثابرة على الفهم حتّى ناقشه ونجح فیه نُجْحًا حسنا سنة 1919.
عاد طه حسین إلى وطنه، فلم تُمهله الجامعة المصریّة وعیّنته مباشرة أستاذا للتاریخ القدیم (الیونانی والرّومانی)، فظلّ یُدرّسه طیلة ستّ سنوات كاملات (1919-1925).
بعد اكثر من قرن كامل على میلاده، و27 عاما على وفاته، ما زال عمید الادب العربی الدكتور طه حسین احد الاركان الاساسیة فی تكوین العقل العربی المعاصر، وصیاغة الحیاة الفكریة فی العالم العربی، وملمحاً أساسیاً من ملامح الادب العربی الحدیث... بل ان الاجیال الجدیدة من ابناء الامة العربیة لا تزال تكتشف جوانب جدیدة من القیمة الفكریة والانسانیة لاحد رواد حركة التنویر فی الفكر العربی... وما زالت اعمال طه حسین ومعاركه الادبیة والفكریة من أجل التقدم والتخلی عن الخرافات والخزعبلات التی حاصرت وقیدت العقل العربی لعدة قرون، من اهم الروافد التی یتسلح بها المفكرون العرب فی مواجهة الحملات الارتدادیة التی تطل برأسها فی عصرنا.
وما زالت السیرة الذاتیة لطه حسین وما تجسده من كفاح انسانی وفكری مدرسة هامة ما اشد حاجة الاجیال الجدیدة للتعلم منها والتأمل فیها.
من عزبة صغیرة (اصغر من القریة) فی صعید مصر بدأت رحلة طه حسین، فقد ولد عمید الادب العربی فی تلك البقعة الصغیرة التی تقع على بعد كیلو متر واحد من مغاغة بمحافظة المنیا فی وسط صعید مصر... كان ذلك فی الرابع عشر من نوفمبر عام 1889م، وكان والده حسین علی موظفاً فی شركة السكر وانجب ثلاثة عشر ولداً كان سابعهم فی الترتیب 'طه' الذی اصابه رمد فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعینیه (كما یقول هو عن نفسه فی كتاب 'الایام').
وفی عام 1898 وبینما لم یكن قد اكمل السنوات العشر كان طه حسین قد اتم حفظ القرآن الكریم... وبعد ذلك بأربع سنوات بدأت رحلته الكبرى عندما غادر القاهرة متوجها الى الازهر طلباً للعلم. فی عام 1908 بدأت ملامح شخصیة طه حسین المتمردة فی الظهور حیث بدأ یتبرم بمحاضرات معظم شیوخ الازهر فاقتصر على حضور بعضها فقط مثل درس الشیخ بخیت ودروس الادب... وفی العام ذاته انشئت الجامعة المصریة، فالتحق بها طه حسین وسمع دروس احمد زكی (باشا) فی الحضارة الاسلامیة واحمد كمال (باشا) فی الحضارة المصریة القدیمة ودروس الجغرافیا والتاریخ واللغات السامیة والفلك والادب والفلسفة على اساتذة مصریین واجانب.
فی تلك الفترة اعد طه حسین رسالته للدكتوراه نوقشت فی 15 أیار 1914م. هذه الرسالة (وكانت عن ذكرى ابی العلاء) اول كتاب قدم الى الجامعة واول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصریة، واول موضوع امتحن بین ایدی الجمهور.
ومثلما كانت حیاته كلها جرأة وشجاعة واثارة للجدل فقد احدث نشر هذه الرسالة فی كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت الى حد طلب احد نواب البرلمان حرمان طه حسین من حقوق الجامعیین 'لأنه الف كتابا فیه الحاد وكفر'!، ولكن سعد زغلول رئیس الجمعیة التشریعیة آنذاك اقنع النائب بالعدول عن مطالبه.
الرحلة الثانیة
اذا كانت الرحلة الاولى ذات الاثر العمیق فی حیاة طه حسین وفكره هی انتقاله من قریته فی الصعید الى القاهرة... فإن الرحلة الاخرى الاكثر تأثیراً كانت الى فرنسا فی عام 1914 حیث التحق بجامعة مونبلییه لكی یبعد عن باریس احد میادین الحرب العالمیة الاولى... وهناك درس اللغة الفرنسیة وعلم النفس والادب والتاریخ. ولاسباب مالیة اعادت الجامعة المصریة مبعوثیها فی العام التالی 1915 لكن فی نهایة العام عاد طه حسین الى بعثته ولكن الى باریس هذه المرة حیث التحق بكلیة الاداب بجامعة باریس وتلقى دروسه فی التاریخ ثم فی الاجتماع حیث اعد رسالة اخرى على ید عالم الاجتماع الشهیر 'امیل دوركایم' وكانت عن موضوع 'الفلسفة الاجتماعیة عند ابن خلدون' حیث اكملها مع 'بوجلیه' بعد وفاة دوركایم وناقشها وحصل بها على درجة الدكتوراه فی عام 1919م ثم حصل فی العام ذاته على دبلوم الدراسات العلیا فی اللغة اللاتینیة، وكان قد اقترن فی 9 اغسطس 1917 بالسیدة سوزان التی سیكون لها اثر ضخم فی حیاته بعد ذلك.
فی عام 1919 عاد طه حسین الى مصر فعین استاذاً للتاریخ الیونانی والرومانی واستمر كذلك حتى عام 1925 حیث تحولت الجامعة المصریة فی ذلك العام الى جامعة حكومیة وعین طه حسین استاذاً لتاریخ الادب العربی بكلیة الآداب.
أولى المعارك
رغم تمرده على الكثیر من اراء اساتذته الا ان معركة طه حسین الاولى والكبرى من اجل التنویر واحترام العقل تفجرت فی عام 1926 عندما اصدر كتابه 'فی الشعر الجاهلی' الذی احدث ضجة هائلة بدأت سیاسیة قبل ان تكون ادبیة. كما رفعت دعوى قضائیة ضد طه حسین فأمرت النیابة بسحب الكتاب من منافذ البیع واوقفت توزیعه... ونشبت معارك حامیة الوطیس على صفحات الصحف بین مؤیدین ومعارضین لهذا الكتاب.
وفی عام 1928 وقبل ان تهدأ ضجة كتاب الشعر الجاهلی بشكل نهائی تفجرت الضجة الثانیة بتعیینه عمیداً لكلیة الآداب الامر الذی اثار ازمة سیاسیة اخرى انتهت بالاتفاق مع طه حسین على الاستقالة فاشترط ان یعین اولاً. وبالفعل عین لیوم واحد ثم قدم الاستقالة فی المساء وأعید 'میشو' الفرنسی عمیداً لكلیة الآداب، ولكن مع انتهاء عمادة میشو عام 1930 اختارت الكلیة طه حسین عمیداً لها ووافق على ذلك وزیر المعارف الذی لم یستمر فی منصبه سوى یومین بعد هذه الموافقة وطلب منه الاستقالة.
الازمة الكبرى
وفی عام 1932 حدثت الازمة الكبرى فی مجرى حیاة طه حسین... ففی شباط 1932 كانت الحكومة ترغب فی منح الدكتوراه الفخریة من كلیة الآداب لبعض السیاسیین... فرفض طه حسین حفاظاً على مكانة الدرجة العلمیة، مما اضطر الحكومة الى اللجوء لكلیة الحقوق...
ورداً على ذلك قرر وزیر المعارف نقل طه حسین الى دیوان الوزارة فرفض العمل وتابع الحملة فی الصحف والجامعة كما رفض تسویة الازمة الا بعد اعادته الى عمله وتدخل رئیس الوزراء فأحاله الى التقاعد فی 29 آذار 1932 فلزم بیته ومارس الكتابة فی بعض الصحف الى ان اشترى امتیاز جریدة 'الوادی' وتولى الاشراف على تحریرها، ثم عاد الى الجامعة فی نهایة عام 1934 وبعدها بعامین عاد عمیداً لكلیة الاداب واستمر حتى عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة فی وزارة المعارف حتى عام .1942
ولأن حیاته الوظیفیة كانت دائماً جزءاً من الحیاة السیاسیة فی مصر صعوداً وهبوطاً فقد كان تسلم حزب الوفد للحكم فی 4 شباط 1942 ایذاناً بتغیر آخر فی حیاته الوظیفیة حیث انتدبه نجیب الهلالی وزیر المعارف آنذاك مستشاراً فنیاً له ثم مدیراً لجامعة الاسكندریة حتى احیل على التقاعد فی 16 تشرین الاول 1944 واستمر كذلك حتى 13 حزیران 1950 عندما عین لاول مرة وزیراً للمعارف فی الحكومة الوفدیة التی استمرت حتى 26 حزیران 1952 وهو یوم احراق القاهرة حیث تم حل الحكومة.
وكانت تلك آخر المهام الحكومیة التی تولاها طه حسین حیث انصرف بعد ذلك وحتى وفاته عام 1973 الى الانتاج الفكری والنشاط فی العدید من المجامع العلمیة التی كان عضواً بها داخل مصر وخارجها
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در شنبه ۱۱ اردیبهشت ۱۳۸۹و ساعت 19:35|