تحاول هذه الدّراسة أن تستكشف الجوانب الفنیة والدلالیة
فی الشعر العربی المعاصر وبالخصوص تلك التی لها علاقة بظاهرة توظیف التراث
الشعبی. إذ لا یكاد دیوان یخلو من الإشارات الفلكلوریة والرموز الأسطوریة،
والأجواء الشعبیة المعروفة لدى العامة والخاصة، أو تضمین هیاكل أسطوریة
وأشكال شعبیة قدیمة أو حدیثة للتعبیر عن مضامین جدیدة وتجارب معاصرة. ومن
ثمّ باتت هذه الظاهرة فی حاجة إلى بحث یعمق دلالتها، ویستكشف أصولها
ومرجعیاتها الفكریة والحضاریة، ویحدد قیمتها الفنیة.
تتوجّه هذه الدراسة ـ فی ضوء ذلك ـ إلى محاولة إزاحة اللثام عن أسباب اهتمام الشعراء المعاصرین بالتراث الشعبی وطرائق توظیفه، وما اكتسبه النص الشعری من خلال استعانته بأشكال التعبیر الشعبی. كما تتوجه فی الوقت ذاته إلى اقتراح بعض الأسالیب الفنیة فی استخدام هذا التراث التی من شأنها توضیح الرؤى والمعالم، وبالتالی تجنیب الكتابة الشعریة الوقوع فی الحشد والتكرار وغیرهما من المزالق الفنیة، كالغموض الناجم عن العجز فی تمثّل هذا التراث، أو طغیان أحد الملمحین (التراثی أو المعاصر) على الآخر، أو التأویل الخاطئ لبعض الشخصیات والأحداث، أو التقلید الناتج من التشابه المفرط فی طرائق الاستخدام والتوظیف.
لم یكن لهذه الدراسة أن تنطلق من نتائج ومسلمات سبق التوصل إلیها، وإنما كان علیها أن تحوّل هذه النتائج والمسلمات إلى فرضیات وأن تشق طریقها بهاجسها وطموحها، مستضیئةً بنور شموع أوقدتها.
دراسات رائدة، وبخاصة تلك التی قدّمها كل من:
أسعد رزوق فی نهایة الخمسینیات حین تناول (الأسطورة فی الشعر المعاصر) متخذاً من ت. س. إلیوت نقطة انطلاقه فی منهج البحث والدّراسة. وقد انتهى إلى أن هناك علاقة وطیدة بین الأسطورة والشعر من حیث نشأتهما التاریخیة، وأن استحضار الشعراء المعاصرین للأسطورة، هو تعبیر عن أزمة الإنسان الحضاریة فی القرن العشرین. وقد كان إلیوت، ـ فی نظره ـ نموذجاً رائعاً فی تجسید هذه الأزمة حین أعلن صراحة، أن لا خلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبی بطقوسه ومعتقداته.
وأنس داود فی أطروحته بعنوان (الأسطورة فی الشعر العربی الحدیث) التی راح یتتبع فیها ظاهرة توظیف الأسطورة، والمؤثرات الأجنبیة فی استخدامها فی الشعر الحدیث والمعاصر: بدءاً من مدرسة الإحیاء إلى مدرسة التجدید ممثلة فی بدر شاكر السیاب، وصلاح عبد الصبور، وخلیل حاوی وغیرهم من رواد حركة التجدید فی الشعر المعاصر.
وما كتبه أیضاً علی عشری زاید حول (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) حیث عمد إلى رصد هذه الظاهرة رصداً فنیاً من خلال تحدید ملامحها وتجلیاتها، وربطها بمرجعیتها العربیة والإسلامیة، مظهراً ثراء هذه المرجعیة، وقدرتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها.
وشوقی ضیف حول (الشعر وطوابعه الشعبیة على مرّ العصور) من الجاهلی إلى العصر الحدیث، محاولاً تصحیح الرأی الخاطئ الذی ذاع على ألسنة العدید من الناس، والذی مفاده أن شعراء العربیة كانوا بمعزل عن شعوبهم، فهم یتغنون بأشعارهم للطبقات العلیا دون سواها من عامة الناس.
ولعل أبرز شیء یمكن ملاحظته على هذه المكتبة، اقتصارها على الأسطورة دون غیرها من أشكال التعبیر الشعبی الأخرى، واعتمادها على الطرح العام الذی بإمكانه إغفال الكثیر من القضایا الجوهریة التی تمیز قضیةً عن أخرى أو شاعراً عن آخر.
على الرغم من هذا كله، فقد كانت هذه المكتبة، خیر معین لهذه الدّراسة بما وفّرته لها من أفكار وملاحظات أنارت العدید من الجوانب المظلمة، فمهدت الطریق وسهلت سبیل السیر فیه. وقد كان ذلك من جهة أخرى دافعاً رئیساً لاختیار هذا الموضوع، إذ حركته القناعة المطلقة بأن ما أثیر حول ظاهرة توظیف التراث الشعبی فی القصیدة المعاصرة، وما كتب عنها، لم یعط الظاهرة حقها بعد من الدّراسة والتحلیل والاستنتاج، وأن جلّ ما كتب، كان منصباً حول الأسطورة فی جوانبها الاجتماعیة والفكریة دون غیرها من الأشكال التراثیة الأخرى، من هنا جاءت هذه الدّراسة محاولة سدّ هذا الفراغ، معالجة الظاهرة برؤیة یراد بها أن تكون جدیدة وشاملة، وذلك بالتركیز على الجوانب الفنیة فیها. لأن الظاهرة، كما تبین لی، حضاریة (تعبیر عن أزمة الإنسان والحضارة المعاصرة) وفنیة (البحث عن أشكال جدیدة للتعبیر عن هذه الأزمة).
أما عن الأسباب التی شجعتنی للخوض فی غمار الشعر المعاصر ومعالجة هذا الجانب منه، إیمانی القوی بأن هذه الناحیة، إذا ما عولجت بطریقة علمیة ومنهجیة، ستفتح العدید من القضایا والآفاق المتعلقة بالنص المعاصر، سواء تلك التی تتعلق به بوصفه بنیة لغویة وشكلاً جدیداً من الكتابة الشعریة، أو تلك التی تربطه بالقارئ والمتلقی عموماً. ومن ثمّ كان الهدف من هذه الدّراسة
أولاً : الوقوف عند النص الشعری المعاصر والكشف عن مكوناته الفنیة ومرجعیاته الفكریة.
ثانیاً : تقریب هذا النص من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظیف الأساطیر والرموز ذات المناحی الفلكلوریة.
وثالثاً : تقریب القارئ من النص بتزویده ببعض الآلیات التی تمكّنه من الولوج إلى أعماق القصیدة واستكشاف أسرارها.
یؤمن الدّارس إیماناً قویاً بصعوبة قراءة النص الشعری المعاصر وفهمه فهماً صحیحاً فی غیاب مثل هذه الدراسات والإلمام بالتراث المیثولوجی الإنسانی عموماً، لأن هذا النص تأسس ـ فی اعتقادنا ـ أصلاً عندما انفتح على هذا التراث فتأثر به وأثر فیه. وذلك بعض آفاق هذه الدراسة التی تطمح إلى التأسیس لقراءة جدیدة تستحضر السیاق دون أن تغض الطرف عن نسقیة النص حین یتحوّل الأسطوری إلى شعری.
وبعد فحص المادة والإلمام بجل جوانبها تراءى لی أن أتناول الموضوع انطلاقاً من خطة كانت تبدو أنها ستقود إلى الغایات التی رسمت، وهی الكشف عن بنیة هذه القصیدة ومرجعیاتها الفكریة والجمالیة، من خلال الوقوف عند المصادر والخلفیات التی كان یستقی منها الشعراء مادتهم، والأسالیب التی كانوا یستعملونها.
وانطلاقاً من طبیعة الموضوع نفسه والغایات التی حاولت تحقیقها، كان من الضروری الاشتغال على النصوص الشعریة، وآراء الشعراء حول الظاهرة، دون الانسیاق وراء الجوانب النظریة إلا فی الحالات التی تقتضیها الضرورة. ولعل ذلك ما جعل الدراسة تغض الطرف عن كثیر من القضایا النظریة للآلیات التی اختارتها أن تكون مصاحبة لها فی قراءة المتون الشعریة على الرغم من قیمتها فی مثل هذه الحالات. غیر أن طبیعة الموضوع كانت تقتضی الابتعاد عن التنظیر ومقاربة النصوص مباشرة. كما أن اصطحاب النظریات من شأنه أن یحد من حریة الدّارس فی قراءة النصوص ویجعله سائراً وفقه. وتلك بعض معضلات النقد المعاصر الذی یغوص فی التعاریف دون أن یمكنه ذاك من الولوج إلى عالم النص الذی لا یرتضی دائماً قواعد عامة قد تصلح لنص ولا تصلح لآخر.
ومن هذا المنطلق الذی یجعل الجانب النظری فی خدمة الجانب التطبیقی فی الدراسة، والذی لا یحاول فهم الدلالات إلا فی سیاقاتها العامة، جاءت خطة البحث نتائج استقراء للنصوص. وعلى هذا القدر من الفهم والاستیعاب تم تقسیم هذه الدراسة فی جزئها الأول إلى تمهید وفصلین وخاتمة.
وتجنباً لاجترار ما أ صبح شائعاً اقتصر التمهید على عرض أهمیة التراث الشعبی فی الكتابات المعاصرة مركِّزاً على الإرهاصات الأولى لتوظیف التراث الشعبی فی حركات التجدید الشعری الأولى.
الفصل الأول أفردته للمكوّنات والأصول، فتطرقت فیه لعلاقة الفن والشعر بالطقوس السحریة والأسطوریة، ورأینا فیهما تلازماً قویاً منذ أن كان الفن والسحر ممارسة وشكلاً تعبیریاً واحداً لیس إلا. ومما لا شك فیه أن القصیدة الجاهلیة تثبت فی كثیر من وجوهها ذاك القران الشرعی بین الشعر والطقوس الشعبیة سواء من حیث النشأة أو الوظیفة، أو الأجواء العامة التی كانت تصاحبهما. وعلى الرغم من الانفصال الظاهری الذی حدث بینهما بعد ذلك، فإن العلاقة بینهما ـ كما أوضحت هذه الدراسة ـ قویة ومتینة، ولا عجب أن تكون القصیدة المعاصرة حاملة لزخم التراث الشعبی تتوارى بالإیماء والإیحاء حیناً، وتقیم علاقات مباشرة معه حیناً آخر.
أما الفصل الثانی فخصصته للحدیث عن الرّوافد التراثیة التی أقام الشاعر المعاصر علیها علاقته مع التراث الشعبی، فلم یستثن فی بحثه الدائم عن أشكال تعبیریة جدیدة مصدراً ومرجعاً. فكل المشارب صالحة للارتواء ما دامت تعیده إلى اللغة البكر والخیال الواسع. وقد كان للغصن الذهبی لصاحبه جیمس فریزر فضل بالغ فی تعریف الشعراء المعاصرین بتراث الإنسانیة الشعبی، وتقدیم أشكال تفكیر الشعوب عبر مراحلها الطویلة، فلم یعد یخفى على الشاعر أساطیر ومعتقدات أجناس بشریة كانت توصف بالبدائیة، وأصبح من المتیسر استحضار تلك الإنجازات الحضاریة للدلالة على القیم الإنسانیة العلیا التی لا تختلف وإن تناءت الأماكن واختلفت الأزمنة. ولم یعد برومثیوس وتموز وسیزیف والسندباد غرباء فی المجتمعات الحدیثة، بل إن بعضها أصبح دائم الحضور وأقرب عند الشاعر من إنسان هذا الزمان.
تتوجّه هذه الدراسة ـ فی ضوء ذلك ـ إلى محاولة إزاحة اللثام عن أسباب اهتمام الشعراء المعاصرین بالتراث الشعبی وطرائق توظیفه، وما اكتسبه النص الشعری من خلال استعانته بأشكال التعبیر الشعبی. كما تتوجه فی الوقت ذاته إلى اقتراح بعض الأسالیب الفنیة فی استخدام هذا التراث التی من شأنها توضیح الرؤى والمعالم، وبالتالی تجنیب الكتابة الشعریة الوقوع فی الحشد والتكرار وغیرهما من المزالق الفنیة، كالغموض الناجم عن العجز فی تمثّل هذا التراث، أو طغیان أحد الملمحین (التراثی أو المعاصر) على الآخر، أو التأویل الخاطئ لبعض الشخصیات والأحداث، أو التقلید الناتج من التشابه المفرط فی طرائق الاستخدام والتوظیف.
لم یكن لهذه الدراسة أن تنطلق من نتائج ومسلمات سبق التوصل إلیها، وإنما كان علیها أن تحوّل هذه النتائج والمسلمات إلى فرضیات وأن تشق طریقها بهاجسها وطموحها، مستضیئةً بنور شموع أوقدتها.
دراسات رائدة، وبخاصة تلك التی قدّمها كل من:
أسعد رزوق فی نهایة الخمسینیات حین تناول (الأسطورة فی الشعر المعاصر) متخذاً من ت. س. إلیوت نقطة انطلاقه فی منهج البحث والدّراسة. وقد انتهى إلى أن هناك علاقة وطیدة بین الأسطورة والشعر من حیث نشأتهما التاریخیة، وأن استحضار الشعراء المعاصرین للأسطورة، هو تعبیر عن أزمة الإنسان الحضاریة فی القرن العشرین. وقد كان إلیوت، ـ فی نظره ـ نموذجاً رائعاً فی تجسید هذه الأزمة حین أعلن صراحة، أن لا خلاص من الأرض الخراب إلا بالعودة إلى أحضان التراث الشعبی بطقوسه ومعتقداته.
وأنس داود فی أطروحته بعنوان (الأسطورة فی الشعر العربی الحدیث) التی راح یتتبع فیها ظاهرة توظیف الأسطورة، والمؤثرات الأجنبیة فی استخدامها فی الشعر الحدیث والمعاصر: بدءاً من مدرسة الإحیاء إلى مدرسة التجدید ممثلة فی بدر شاكر السیاب، وصلاح عبد الصبور، وخلیل حاوی وغیرهم من رواد حركة التجدید فی الشعر المعاصر.
وما كتبه أیضاً علی عشری زاید حول (استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر) حیث عمد إلى رصد هذه الظاهرة رصداً فنیاً من خلال تحدید ملامحها وتجلیاتها، وربطها بمرجعیتها العربیة والإسلامیة، مظهراً ثراء هذه المرجعیة، وقدرتها على العطاء الدائم والمتجدد إذا أحسن استخدامها.
وشوقی ضیف حول (الشعر وطوابعه الشعبیة على مرّ العصور) من الجاهلی إلى العصر الحدیث، محاولاً تصحیح الرأی الخاطئ الذی ذاع على ألسنة العدید من الناس، والذی مفاده أن شعراء العربیة كانوا بمعزل عن شعوبهم، فهم یتغنون بأشعارهم للطبقات العلیا دون سواها من عامة الناس.
ولعل أبرز شیء یمكن ملاحظته على هذه المكتبة، اقتصارها على الأسطورة دون غیرها من أشكال التعبیر الشعبی الأخرى، واعتمادها على الطرح العام الذی بإمكانه إغفال الكثیر من القضایا الجوهریة التی تمیز قضیةً عن أخرى أو شاعراً عن آخر.
على الرغم من هذا كله، فقد كانت هذه المكتبة، خیر معین لهذه الدّراسة بما وفّرته لها من أفكار وملاحظات أنارت العدید من الجوانب المظلمة، فمهدت الطریق وسهلت سبیل السیر فیه. وقد كان ذلك من جهة أخرى دافعاً رئیساً لاختیار هذا الموضوع، إذ حركته القناعة المطلقة بأن ما أثیر حول ظاهرة توظیف التراث الشعبی فی القصیدة المعاصرة، وما كتب عنها، لم یعط الظاهرة حقها بعد من الدّراسة والتحلیل والاستنتاج، وأن جلّ ما كتب، كان منصباً حول الأسطورة فی جوانبها الاجتماعیة والفكریة دون غیرها من الأشكال التراثیة الأخرى، من هنا جاءت هذه الدّراسة محاولة سدّ هذا الفراغ، معالجة الظاهرة برؤیة یراد بها أن تكون جدیدة وشاملة، وذلك بالتركیز على الجوانب الفنیة فیها. لأن الظاهرة، كما تبین لی، حضاریة (تعبیر عن أزمة الإنسان والحضارة المعاصرة) وفنیة (البحث عن أشكال جدیدة للتعبیر عن هذه الأزمة).
أما عن الأسباب التی شجعتنی للخوض فی غمار الشعر المعاصر ومعالجة هذا الجانب منه، إیمانی القوی بأن هذه الناحیة، إذا ما عولجت بطریقة علمیة ومنهجیة، ستفتح العدید من القضایا والآفاق المتعلقة بالنص المعاصر، سواء تلك التی تتعلق به بوصفه بنیة لغویة وشكلاً جدیداً من الكتابة الشعریة، أو تلك التی تربطه بالقارئ والمتلقی عموماً. ومن ثمّ كان الهدف من هذه الدّراسة
أولاً : الوقوف عند النص الشعری المعاصر والكشف عن مكوناته الفنیة ومرجعیاته الفكریة.
ثانیاً : تقریب هذا النص من القارئ بإزاحة بعض غموضه الناجم عن توظیف الأساطیر والرموز ذات المناحی الفلكلوریة.
وثالثاً : تقریب القارئ من النص بتزویده ببعض الآلیات التی تمكّنه من الولوج إلى أعماق القصیدة واستكشاف أسرارها.
یؤمن الدّارس إیماناً قویاً بصعوبة قراءة النص الشعری المعاصر وفهمه فهماً صحیحاً فی غیاب مثل هذه الدراسات والإلمام بالتراث المیثولوجی الإنسانی عموماً، لأن هذا النص تأسس ـ فی اعتقادنا ـ أصلاً عندما انفتح على هذا التراث فتأثر به وأثر فیه. وذلك بعض آفاق هذه الدراسة التی تطمح إلى التأسیس لقراءة جدیدة تستحضر السیاق دون أن تغض الطرف عن نسقیة النص حین یتحوّل الأسطوری إلى شعری.
وبعد فحص المادة والإلمام بجل جوانبها تراءى لی أن أتناول الموضوع انطلاقاً من خطة كانت تبدو أنها ستقود إلى الغایات التی رسمت، وهی الكشف عن بنیة هذه القصیدة ومرجعیاتها الفكریة والجمالیة، من خلال الوقوف عند المصادر والخلفیات التی كان یستقی منها الشعراء مادتهم، والأسالیب التی كانوا یستعملونها.
وانطلاقاً من طبیعة الموضوع نفسه والغایات التی حاولت تحقیقها، كان من الضروری الاشتغال على النصوص الشعریة، وآراء الشعراء حول الظاهرة، دون الانسیاق وراء الجوانب النظریة إلا فی الحالات التی تقتضیها الضرورة. ولعل ذلك ما جعل الدراسة تغض الطرف عن كثیر من القضایا النظریة للآلیات التی اختارتها أن تكون مصاحبة لها فی قراءة المتون الشعریة على الرغم من قیمتها فی مثل هذه الحالات. غیر أن طبیعة الموضوع كانت تقتضی الابتعاد عن التنظیر ومقاربة النصوص مباشرة. كما أن اصطحاب النظریات من شأنه أن یحد من حریة الدّارس فی قراءة النصوص ویجعله سائراً وفقه. وتلك بعض معضلات النقد المعاصر الذی یغوص فی التعاریف دون أن یمكنه ذاك من الولوج إلى عالم النص الذی لا یرتضی دائماً قواعد عامة قد تصلح لنص ولا تصلح لآخر.
ومن هذا المنطلق الذی یجعل الجانب النظری فی خدمة الجانب التطبیقی فی الدراسة، والذی لا یحاول فهم الدلالات إلا فی سیاقاتها العامة، جاءت خطة البحث نتائج استقراء للنصوص. وعلى هذا القدر من الفهم والاستیعاب تم تقسیم هذه الدراسة فی جزئها الأول إلى تمهید وفصلین وخاتمة.
وتجنباً لاجترار ما أ صبح شائعاً اقتصر التمهید على عرض أهمیة التراث الشعبی فی الكتابات المعاصرة مركِّزاً على الإرهاصات الأولى لتوظیف التراث الشعبی فی حركات التجدید الشعری الأولى.
الفصل الأول أفردته للمكوّنات والأصول، فتطرقت فیه لعلاقة الفن والشعر بالطقوس السحریة والأسطوریة، ورأینا فیهما تلازماً قویاً منذ أن كان الفن والسحر ممارسة وشكلاً تعبیریاً واحداً لیس إلا. ومما لا شك فیه أن القصیدة الجاهلیة تثبت فی كثیر من وجوهها ذاك القران الشرعی بین الشعر والطقوس الشعبیة سواء من حیث النشأة أو الوظیفة، أو الأجواء العامة التی كانت تصاحبهما. وعلى الرغم من الانفصال الظاهری الذی حدث بینهما بعد ذلك، فإن العلاقة بینهما ـ كما أوضحت هذه الدراسة ـ قویة ومتینة، ولا عجب أن تكون القصیدة المعاصرة حاملة لزخم التراث الشعبی تتوارى بالإیماء والإیحاء حیناً، وتقیم علاقات مباشرة معه حیناً آخر.
أما الفصل الثانی فخصصته للحدیث عن الرّوافد التراثیة التی أقام الشاعر المعاصر علیها علاقته مع التراث الشعبی، فلم یستثن فی بحثه الدائم عن أشكال تعبیریة جدیدة مصدراً ومرجعاً. فكل المشارب صالحة للارتواء ما دامت تعیده إلى اللغة البكر والخیال الواسع. وقد كان للغصن الذهبی لصاحبه جیمس فریزر فضل بالغ فی تعریف الشعراء المعاصرین بتراث الإنسانیة الشعبی، وتقدیم أشكال تفكیر الشعوب عبر مراحلها الطویلة، فلم یعد یخفى على الشاعر أساطیر ومعتقدات أجناس بشریة كانت توصف بالبدائیة، وأصبح من المتیسر استحضار تلك الإنجازات الحضاریة للدلالة على القیم الإنسانیة العلیا التی لا تختلف وإن تناءت الأماكن واختلفت الأزمنة. ولم یعد برومثیوس وتموز وسیزیف والسندباد غرباء فی المجتمعات الحدیثة، بل إن بعضها أصبح دائم الحضور وأقرب عند الشاعر من إنسان هذا الزمان.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در پنجشنبه ۱۲ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:28|