ابزار وبمستر

تحلیل الخطاب.. مقدمة للقارئ العربی
تحلیل الخطاب.. مقدمة للقارئ العربی




تقدیم:

مصطلحات كل علم تالیةٌ له فی الوجود، وكلّما تقدّم العلم إلاَّ ونمت مصطلحاته، وتحدَّدت معانیها، ممّا یفرض على العلم حتمیَة الرُّجُوع إلى ذاته لتأمُّلها ومساءلتها بمناقشة تصوُّراته ومصطلحاته، وإذا لم یفعل ذلك فالتاریخ كفیلٌ بأنْ یقومَ بهذا العمل، ممّا یفضحه أمام ذاته وأمام الآخرین.

وتسعى هذه المساءلة، التی أحسبها مقدمة للقارئ العربی، إلى استنطاق بعضٍ من الموروث النقدی والمصطلحی العربی والغربی من منظور معجمی ودلالی وتنظیری بما یكفل الوقوف على دلالات: النص والخطاب وما یعتریهما من تداخل وتلازم مع كلٍّ من التحلیل والنّقد والقراءة.

هذا وأخشى أن أكون فی تقدیمی لهذا البحث مثلُ الذی آخذه على المشتغلین فی حقل الدراسات اللسانیة والنقدیة من الاختلاط والتراكم وغیاب النّسق، وإذن تكون مداخلتی هذه دلیلاً ذاتیاً على الموضوع الذی تتصدّى له، ولا ضَیْر، لأنّ مطلق التصریح بهذا الوعی الذاتی خطوةً نحو تجاوز هذا الوضع.

أولاُ: بین النص والخطاب:

1-النص:

النّون والصّاد أصل صحیح یدلّ على رَفْعٍ وارتفاعٍ وانتهاء فی الشیء. یقالُ:نصَّ الحدیثَ إلى فلان: رَفَعه إلیه. والنَّصُّ فی السَّیْر أَرْفَعُه. ومِنَصَّةُ العَرُوس منه أیضاً. وباتً فُلاَنٌ مُنْتَصّاً على بعیره، أی مُنْتَصِباً. ونَصُّ كلِّ شیء:مُنْتَهاهُ. ونَصَصْتُ الرَّجُلَ: استقْصَیْتُ مسألتَه عن الشیء حتّى تستخرجَ ما عنده. وهو القیاسُ،لأنّك تبتغی بُلُوغَ النِّهایة. ومن هذه الكلمة النَّصْنَصَةُ: إثباتُ البعیر رُكْبَتَیْه فی الأرضِ إذا هَمَّ بالنُّهُوض. والنَّصْنَصَةُ: التَّحْریكُ. والنُّصَّةُ: القَصَّةُ من شَعْر الرَّأْس، وهی على مَوْضِعٍ رَفیعٍ.

ومن المنظور الاصطلاحی، فإن النص "نسج تتخلّله جملة من الوحدات الدالة والمفاهیم القائمة"، وهو تعریف "رولان برث". وانطلاقا من تعریف النص المقترح من "تودوروف فإن النص لا یقع فی المستوى نفسه الذی تقع فیه الجملة، كما أنه لا یقع موقعها من حیث المفهوم. وعلى هذا الأساس فإن النص یجب أن یتمیز عن الفِقْرة باعتبارها وحدة نمطیة من عدة جمل، لذا، یمكن عدُّها علامة من علامات الترقیم. كما أنّ النصّ فی تصوّّر "تودوروف" یتحدّد باستقلالیته وانغلاقه (أی له بدایة ونهایة)، كما أنّه ذو محتوى دلالی متجانس متكامل، ویمتاز بالوضوح، بینما سعى بنفنیست" إلى القول بأنّ: "الجملة إبداعٌ لیس له تعریف، وتنوّعٌ بدون حدود، وهی الحیاة نفسها للغة فی أثناء الفعل".

كما انتهى محمد مفتاح إلى أنَّ النصّ "مدوَّنة حدث كلامی ذی وظائف متعدّدة"، وذلك على الرّغم من إقراره المبدئی بأنَّ "للنصّ تعاریف عدیدة تعكس توجهات معرفیة ونظریة ومنهجیة مختلفة".

فبوصفه:

- "مدوَّنة كلامیة"، یعنی أنّه لیس صورة فوتوغرافیة أو رسما أو عمارة أو زیّاً، وإن استعان الدَّارس برسم الكتابة وفضائها وهندستها فی التحلیل.

- "حدث": یقع فی زمان ومكان معیّنیْن لا یعید نفسه إعادة مطلقة مثله فی ذلك مثل الحدث التاریخی.

- "تواصلی": یهدف إلى إیصال معلومات ومعارف ونقل تجارب إلى المتلقی.

- "تفاعلی": على اعتبار أنَّ أهم وظائفه التفاعلیة للنصّ اللغوی هی تلك التی تقیم علاقات بین أفراد المجتمع وتحافظ علیها، علماً بأنّ الوظیفة التواصلیة فی اللغة لیست كلّ شیء.

- "مغلق": ونقصد انعلاق سمته الكتابیة الأیقونیة التی لها بدایة ونهایة، ولكنّه من الناحیة المعنویة هو:

- "توالدی": كون الحدث اللغوی لیس منبثقاً من عدم، وإنّما هو متولّد من أحداث تاریخیة ونفسانیة ولغویة، وتتناسل منه أحداث لغویة لاحقة به.

تلك هی أهم "المقومات الجوهریة الأساسیة "للنص من وجهة نظر بنیویة، واجتماعیة أدبیة، ونفسیة دلالیة، ووفق منظور تحلیل الخطاب".

فالنص إذن، منعكس لثقافة المجتمع بكافة شبكاته المعقدة عبر التاریخ والجغرافیة والعلاقات بین الأفراد أی أنه ذاكرة ملخصة للنظام المعرفی للمجتمع. فالنص أیا كان هو مجموعة من العلاقات اللغویة التی تخدم فكرة أو مجموعة أفكار أو مفاهیم قابلة للتفسیر والشرح والتأویل مما یمهد لتطویع النص لقراءات جدیدة أو تأكید قراءة ما.

2- الخطاب:

لغة: من خَطَبَ: یقال خاطَبَهُ، یُخَاطِبُهُ خِطاباً، والخُطْبَةُ من ذلك، وهی: الكلام المَخْطُوبُ به. والخَطْب: الأمر یقعُ، وإنَّما یُسَمَّى بذلك لما یقعُ فیه من التَّخاطُب والمُراجَعَة. وفَصْلُ الخِطاب: أی خِطابٌ لا یكونُ فیه اخْتِصارٌ مُخلٌّ ولا إسْهَابٌ مُمِلٌّ.

وهو فی الاصطلاح: الكلام بین اثنین بوساطة شَفَهیة أو مَكْتُوبة أو مَرْئِیَة، والخِطَابُ: الرِّسَالةُ، وهو ممّا أقرّه مَجْمعُ اللغة العربیة بالقاهرة.

وهو فی عرف ج. دوبوا من وجهة نَظَرٍ لسَانِیة متعدّدُ المفاهیم، إذْ یُمكن أن یكون:

1- الكلام

2- مرادف للملفوظ

3- ملفوظ أكبر من الجملة

فإذا وقفنا على هذه المفاهیم الثلاثة، ألفینا رولان بارث نتصر للتحدید الثالث، ویتّخذه مرتكزاً لتحلیله البنیوی، فمن وجهة نظر القواعد فهو سلسلة متتالیة من الجمل. ولكن التحلیل اللسانی للخطاب ینطلق من التعریف الثانی (خطاب/ ملفوظ)، إذ المنطلق یضع حدوداً للطرح بین ما هو لسانی وغیر لسانی، ذلك لأنّ اللسانیات تسعى لمعالجة الملفوظات المجتمعة، ودراسة مسارها عندما تحدّد قواعد للخطاب وقوانین، وتصفه وصفاُ معقولاً وقابلاً للملاحظة والتأمّل كسلسلة متتالیة من الجمل.

ثانیاً- لماذا اعتماد الخطاب المكتوب دون المنطوق؟

اللغة نظام. والنّظام اللغوی أنماطٌ عرفیة تنتظم فی الأصوات والكلمات والتراكیب للتعبیر عن المعانی والتجارب والأحداث والمشاعر. أمّا الأنماط، فهی صور المفردات، نحو (فَعَلَ، فُعِلَ) وبالنسبة للأسماء (المجرّد والمزید). فالأنماط إذن: صیغ تواضع علیها الأفراد فی مجتمع ما وتنتظم فیها الأصوات والكلمات (إذ لا یمكن أن نقول مثلاً فی "المَجْلِس" (على وزن مَفْعِل) "تَجَلَّسَ"، أی أنّ كلّ حرف یأخذ موضعه المُحدّد من الصیغة.

وبناءً على ما سبق یمكن أن نجمل مستویات الأداء اللغوی فی ثلاثة أمور أساسیة، هی:

1- الأداء العامّی: الذی ینقل ما فی الحیاة الیومیة بتراكیب وأصوات فیها الاضطراب والعُجْمة.

2- الأداء العلمی لنقل الأفكار، ویكون بأصوات وتراكیب تعتمد الصحّة فحسب.

3- المستوى الفنّی لنقل التجارب: ویظهر فی أصوات وتراكیب تعتمد الفصاحة والبلاغة، إذ یجب أن نختار الأغراض المناسبة لهذا الفن أو ذاك (ترحّم، أسىً، رثاء)، وأن نختار التعبیر الصحیح البلیغ والعبارة المؤثّرة قصد التأثیر بأسالیب فنیة تناسب المقام وتعتمد ضوابط مشتركة توافق القیاس والسّماع.

إن اللغة مجموعة من العناصر اللغویة التی یعتمدها المتكلم أو الكاتب فی صیاغته نصوصه، بینما فی مجال الخطاب یعتمد موروثه اللغوی المكتسب أداة لإنجاز رسالة خاصة، وفق ملابسات وظروف معینة. وعلى هذا فالخطاب لا یكافئ اللغة فی شیء بل یختلف عنها جملة وتفصیلا.

ثالثاً:- بین الخطاب الأدبی والنصّ الأدبی:

إن المجتمع ینتج نصوصاً أدبیة، وعلى اللغوی أن یكتفی بعرض جملة من المفاهیم والحدود الكفیلة بإیضاح خصائص أسلوبیة على نحو تحدیده مواقع النّعوت فی مثل: (سعید أشقر اللّون) و (سعید وسیمٌ قسیمٌ)، فالنَّعتُ فی المثال الأوّل وصفی، وفی المثال الثّانی تقویمی، وعلى هذا فالنصّ الأدبی إیحائی الدّلالی بینما یرمی الخطاب الأدبی یرمی إلى التواصل الأدبی (نظریة الأدب)، والمشكلة إزاء ذلك لا تزال قائمة، یضاف إلى ذلك أنّ الخطاب التأویلی لا یزال حقلاً معرفیاُ لا یمكن حصره على وجه من الوجوه. كما أنّه لا یمكننا بأی حال من الأحوال أن نضع النصّ الأدبی الشعری والنّصوص العلمیة والدینیة (تجوّزاً) على قدر من المساواة فی المعالجة والمعاملة. "لذلك فالنصُّ الشّعری مثلاً لیس مدوَّنة أحكام سماویة تقدّم مسبقاً أجوبة عمّا تطرحهُ من أسئلة. فخلافاً للنصّ الدینی الشّرعی الذی یعدُّ حجّةً والذی یتعیّنُ إدراك معناه الجاهز على كلّ امرئ یمتلك أذنیْن للسَّماع، فإنّ النصّ الشعری متصوَّرٌ على أنّه بنیَة تقتضی أن ینمو فیها، ضمن فهم متَحاوَرٍ حُرٍّ، معنىً لیس مُنَزَّلا من أوّل وهلة، بل معنىً یتمُّ تفعیلهُ خلال تلقیّه المتعاقب التی یُطابقُ تسلسلُها الأسئلة والأجوبة. وجمالیة التلقی تحدّد لنفسها غایة الكشف عن الكیفیة التی یتمُّ بها تشكُّلُ المعنى حین یُنجزُ الشّاعر صراحةً هذا التسلسل الذی یظلُّ على العكس كامناً فی أغلب الأحیان".

فجمالیة التلقی إذن، دعوة إلى تأویل جدید للنص الأدبی یروم استجلاء سمات التفرّد وإبداع فیه (أو نقیضهما الإتّباع ووالابتذال) لا باستنطاق عمقه الفكری فی حدّ ذاته أو وصف سیرورة تشكّله الخارجی كما هی فی ذاتها، وإنّما بتحدید طبیعة وقعه وشدّة أثره فی القراءة والنقّاد من ردود فعلهم وخطاباتهم. فهی إذن نقدٌ للنصّ بنقد تلقّیه، الأمر الذی یعدم أیّ علاقة بین جمالیة التلقّی ونقد النّقد.

على أن من الدَّارسین المحدثین من یوجب الإقرار بأنه من "العبث، البحث عن فوارق أو أوجه التقارب بین الخطاب والنص، ذلك لأنّ مفهوم الخطاب احتضنته علوم لسانیة وقَعَّدت له، فصار حقلاً من حقولها، ولمّا تلقّفه المعجم النقدی للعلوم الإنسانیة انزاح عن خصوصیته اللسانیة، فعرَف توسّعاً فی الاستعمال، وإنْ حرص بعض الدّارسین فی حقول العلوم الإنسانیة والاجتماعیة على الاحتفاظ بجوهر مرجعیته اللسانیة. لكنّنا عندما نُعاین استعمالاته فی كتاباتهم ونقابلها بالدراسات اللسانیة الصّارمة، تظهر الهوّة كبیرة. أمّا مصطلح النصّ، إذا لم یستقر له تصوُّرٌ لدى المنظّرین، حیث اعترفوا بصعوبة تحدید ماهیته، فمن العسیر أیضاً التقریب بینه وبین الخطاب، ذلك أنّ نظریة النصّ تنزع نحو الدرس الفلسفی والجمالی، لهذا وجبَ التریُّث فی استعمال المفاهیم وتحدید مواقعها فی المعجم النقدی، بل أصبح الأمر فی بعض الأحیان لهواً وتَرفاً علمیَّیْن لا جدوى منه". وفی هذا إقرار بعدم القول بالتطابق التامّ بینهما.

رابعاً-التحلیل:

لغة: من حلّل العقدة: أی فكها وحلّل الشیء: أرجعه إلى عناصره الأولى. وحلَّلْت الیمین أحلِّلها تحلیلا: أی لمْ أفعلْ إلاَّ بقَدْر ما حلَّلتُ به قَسَمی أنْ أفْعَلَهُ ولمْ أُبالغ، ثمَّ كثُر هذا فی كلامهم حتَّى قیل لكل شیء لمْ یُبالغ فیه تحلیلٌ.

والتحلیل اصطلاحا: هو بیان أجزاء الشیء ووظیفة كل جزء فیها ویقوم على الشرح والتفسیر والتأویل والعمل على جعل النص واضحًا جلیّاً. ومن هذا المنطلق یركز الناقد على اللغة والأسلوب والعلاقات المتبادلة بین الأجزاء والكل، لكی یصبح معنى النص ورمزیته واضحَین، من حیث یعتمد التلخیص لما فیها من تنظیم المعلومات بشكل منطقی، وقدرةً على فهم النص. لذا فإنّ قراءة النص على عَجَلٍ لا تعد تحلیلا، فإذا وقف القارئ على النص وقفة سریعة وفهم فیها النص وأدرك مغزاه، وقرأ ما بین السُّطور، وكان على وعی بالدلالات الاجتماعیة للألفاظ، وعرف عناصر الجمال والقبح فیه، دخل فی منطقة النقد والتذوق الأدبی. أما عملیة التحلیل الفنی فإنها تحتاج إلى جهد ووقت وخبرة وبحث وتنقیر.

أمّا وقد قام التحلیل على التفسیر والشرح والتأویل، ألا یوجد فرق بین هذه المعانی جمیعها؟

الحقّ أن أغلب هذه المعانی معانٍ مشتركة, وإن كانت فی الوقت نفسه تتفرَّدُ بدلالات خاصة تمیزها عن المعانی الأخرى, إلا أن الشرح ارتبط كثیرا بالتفسیر, ولعل هذه المفردة هی التی تؤدی المعنى على أحسن وجه, فالمعانی الأخرى تحوی معنى الشرح ولكنها لا تشمله. فالشرح، وإن ارتبط بمعانی الكشف والتوضیح والبیان, والفتح والتفسیر والحفظ فإنّه یجمع بین بیان وضع اللفظ وبین تفسیر باطن اللفظ, أی "التفسیر" و"التأویل"، أمّا "التفسیر" فكشْفُ المُراد عن اللفظ المشكل وبیان وضع اللفظ إمّا حقیقة أو مجازاً. أمّا "التأویل" فمن: أوَّل الكلام وتأوَّله: دبَّره وقدَّره وأوَّله: فسَّره، ویكون ذلك بردّ أحد المحتمَلَیْن إلى ما یطابق الظاهر، وبذلك خرجت دلالات هذه الألفاظ من معنى المشترك حین دخلت مجال الدراسة العلمیة , فاختص التأویل والتفسیر بالدراسة القرآنیة والمعجمیة, والشرح بالشعر, إلا فیما ندر, وأصبح لكل منها اصطلاح خاص به. فالشرح هو التعلیق على مصنف درس من وجهة علوم مختلفة وقد كتبت الشروح على معظم الرسائل المشهورة أو الأشعار العربیة نحو شرح مقامات الحریری (ت516هـ)، وشرح مشكل شعر المتنبی لابن سیده (ت 458هـ). وعلى هذا فالشّرح أیضا:" توضیح المعنى البعید بمعان قریبة معروفة "ومن هنا اكتسب الشرح معناه الخاص. وأما التفسیر, فهو شرح, لكنه من نوع آخر, فهو "شرح لغوی أو مذهبی لنص من النصوص" ومن هنا نجد أنّ هذا الاختصاص لم یأت اعتباطا, فلكل مصطلح مجاله الذی یتقاطع فیه مع المجال الثانی, لكنه لا یتّحد معه على الرغم من اتحادهما فی الأصل اللغوی.

وعلى هذا فإن الشرح لفظ عام, وهو مصطلح ذو شقّین: التفسیر والتأویل, وقد یتداخل الشِّقاَّن أثناء عملیة الشرح, فنضطر إلى التعامل مع التفسیر على أنّه مرادف للشرح.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ التحلیل: هو دراسة نقف بها على كشف خبایاها الرسالة المنطوقة أو المكتوبة أو المرئیة، كما نقف على جزئیاتها وعناصرها الأولیة، ووظیفة كل منها بالشرح والتفسیر والتأویل، دون مبالغة فی ذلك أو إخلال فیه.

خامساً- النقد:

من نقَدَ، وهو "أصل صحیح على إبرَاز شیء وبُروزه. من ذلك: النَّقْد فی الحافر، وهو تقشُّره. والنَّقْد فی الضِّرْس: تكسُّره، وذلك یكون بتكشف لِیطِه عنه, ومن الباب: نَقْدُ الدِّرْهَم، وذلك أن یُكْشَفَ عن الحَال فی جَوْدته أو غیر ذلك. ودرهم نقد: وَازِنٌ جیِّدٌ، كأنه قد كشف عن حاله فعُلِم. وتقولُ العربُ: ما زالَ فُلانٌ یَنْقُدُ الشَّیءَ، إذا لَمْ یُدیمُ النَّظَر إلیه باختلاسٍ حتَّى لا یُفْطَنَ لهُ.

على أنَّ النَّقْدَ الذی یعنی التَّمْییزَ یعبّرُ عن حُكْمِ قیمة جمالیة بالجَوْدة أوْ الرَّداءَة هیَّأ لاستخدامه مجازاً فی التََّمْییز بین جیِّد الشِّعْر والكلام وردیئهما إلى أن ظهرت وظیفة ناقد الكلام والنَّاقد الأدبی. "فالنّاقد الأدبی إذن یعدُّ مبدئیاً خبیراً یستعمل قدرة خاصة ومرانة خاصة فی قطعة من الفن الأدبی هی عمل لمؤلِّف ما یفحص مزایاها وعیوبها ویصدر علیها حُكماً". فمن المَجاز قولهم: "نقدَ الكلامَ: ناقشهُ. وهو من نَقَدَة الشِّعر ونُقّاده. وانْتَقَدَ الشِّعْرَ على قَائله".

وقد أتى على أهل التألیف حینٌ من الدَّهْر ساروا فیه بین (نقد الشِّعر) و (تمییز جیِّده من ردیئه)، یقول قدامة بن جعفر (ت337هـ):" ولَمْ أجِدْ أحداً وضَع فی نَقْد الشِّعر وتلخیص جیِّده من ردیئه كتاباً".

وعلى هذا فالنَّقد اصطلاحا: هو حكم ٌ قیمی أو عملیة كشف أو مناقشة یُمَّیز بها الأثر الأدبی أو الفنی جیّده من ردیئه وصحیحه من زیفه،الأمر الذی جعل منه ممارسة تقوم على قواعد معیاریة یُحاكم بها الأثر الأدبی، ممّا حدا بمعظم الدارسین المحدثین إلى إدانته، إدانة ما قام علیه من نقد حدیث ومعاصر. فبعضهم یتّهمه بالتقصیر والضیاع,وفقدان المنهجیة, وبعضهم یتهمه بأنه یخلع على الأدب العربی ثوباً على غیر مثاله, فبدا مُضْحكاً مرفوضاً فی صورته الحدیثة والمعاصرة، الأمر الذی یجعل بعض تطبیقاته ظواهر غیر صحیة تقوم على "التَّخَنْدُق والتحیُّز والمعیاریة"، وصار "ضرَراً" و"خُدعةً" حینما وقفنا قانعین "بما قاله غیرنا عن مؤلّف عظیم بدل أن نذهب مباشرة إلى ذلك الأدیب، ونحاول أن نمتلك أدبه لأنفسنا".

أمّا النقد الحدیث من منظور غربی, فیرى فی النقد القدیم إیمانًا بوجود محتمل نقدی, وأنّه ذو نزعة حرفیة یتعامى عن رؤیة الطبیعة الرمزیة للقول الأدبی, لذا فقد" أصرَّ بارث فی بعض المناسبات أنَّهُ لیس ناقداً أدبیاً. فلقد كان یرى أنّ النَّقد یشتمل على التقویم وإصدار الأحكام، الأمر الذی یرى فیه نشاطاً برجوازیاً رفض أن یشارك فیه"، لذا فإنّه یعوّل على مفهوم ودور للنقد الحدیث یرى فیه النّاقد قد أصبح كاتباً بمعنى الكلمة, وأنّ النقد غدا من الضروری أن یقرأ ككتابة، على اعتبار أنّ النَّاقد لا یُمكنه أن یكون بدیلاً للقارئ فی شیء، إذ لیس من المجد أن یسمح لنفسه- أو یطلب من منه البعض- إعطاء صوت، مهما یكن محترماً، لقراءة الآخرین، ولا یكون هو ذاته سوى قارئ أنَابَهُ آخرون للتعبیر عن مشاعرهم الخاصّة بدعوى معرفته أو قدرته على إصدار الأحكام، أی أن یرمز -باختصار-إلى حقوق جماعة على الأثر الأدبی، لأنّه حتى ولو جاز لنا تعریف النّاقد بأنَّه قارئ یكتب، فذاك یعنی أنّ هذا القارئ یلتقی فی طریقه بوسیط مخیف هو: الكتابة.

ولعلَّ فی تقدیم بارث لنَّقدَ على أنَّه"قراءة عمیقة (وإن ركّزت على جانب معیّن)"، ما یُحدّدُ مفهومه وطبیعته بصورة مؤقّتة، كون هذه القراءة" تكشف فی الأثر الأدبی عن مُدرك محدَّد، وهی فی ذلك تعملُ حقّاً على فكِّ الرُّمُز وتُساهمُ فی التأویل "على اعتبار أنّه یحتلُّ من حیث الفائدة المنهجیة "مكاناً وسطاً بین العلم والقراءة. إنّه یُعطی لغة الكلام الخالص الذی یُقرأ، كما یُعطی كلاماً (بین أشیاء أُخَر) للغة الأسطورة التی صیغ منها الأثر الأدبی، والذی یتناولها العلم."

أمّا "أن تكون القراءة نتاجاً، أی أن نجعل من القارئ منتجاً لا مُستهلكاً"فلیس بالأمر المیسور فی كلّ الأطوار، ولا یسری على كلّ الناس، وعلى كلّ القرّاء، اللهمّ إذا كانت بارث یرمی إلى تضییق مجال القراءة فیحصره فی الكتّاب وحدهم، لأنّ مثل هذا التفكیر ینشأ عنه إلغاء جمهور القرّاء وسوادهم، وهذا الجمهور هو المقصود بالكتابة الأدبیة، إذ لا یمكن أن یكتب الكتّاب لأنفسهم، أو أن یكتبوا لبعضهم بعضاً (وهم قلّة قلیلة على الأرض). إنّه لا ینشأ من مثل هذا التفكیر إلاّ قتل الكتابة، وقتل القرّاء معاً، أی نعیُ الأدب، ثمّ تشییعه إلى مثواه الأخیر وإلى الأبد. لذا بات تحدید مفهوم القراءة ووظیفتها مرهون بتحدید القرّاء. فمن هم هؤلاء؟وما مواصفتهم؟ وما هی أیدیولوجیاتهم؟ وما أذواقهم وما ثقافاتهم؟ وما فلسفاتهم فی الحیاة؟ هل هم العمّال فی المعامل، أم هم الطلاّب فی الجامعات، أم هم الأساتذة الذین یحاضرون فی أصول العلم، أم هم أولئك الذین یكتبون، أی الذین یحترفون الأدب احترافاً؟ أم هم أصناف أُخَر من البشر، وخَلْقٌ من النّاس؟

سادساً- القراءة:

القراءة لغة: تأدیة ألفاظ النص وتتبُّعها نظراً أو نطقاً. ویعتمد القارئ فی ذلك مستویات كالأداء والحفظ والفهم، والتذوق.

1_ مستوى الأداء: وغایة أن یؤدی القارئ الأصوات أو الصور الصوتیة أو الرمزیة بدون إبدال واضح للمعانی عند الأطفال والمذیعین أو المنشدین أو المتَسَلِّین.

2_ مستوى الحفظ: ویقوم على قراءات متتالیة أو متقطعة أو متصلة، فیهتم بالعلاقات الصوتیة والمعنویة ویثبت صورها فی الذاكرة الحركیة أو الصوتیة وهی شائعة فی المدارس والمسارح (التمثیل).

3_ مستوى الفهم: ویقوم على قراءة واعیة متأنیة تلتمس معانی التراكیب والألفاظ والعبارات والعلاقات النحویة والفنیة وإدارة الحركة الجزئیة فی النص والحركة الكلیة التی توجد جوانبه بوساطة التحلیل والتركیب وهی قراءة المتعلمین فی المدارس المتقدمة وفی الجامعات وفی الحیاة العامة.

4- مستوى التذوق: وهی قراءة متتالیة متأنیة تحلّل البنی السطحیة والعمیقة الأصلیة والفرعیة ورصف المعانی الإنمائیة الدقیقة لتعزیز الفكرة الأساسیة وتتبع المقویات الدلالیة والمعجمیة والمجازیة والفنیة, الخاصة, وتحیط بامتداد النص وتبرز عمقه وتكتشف أبعاد التفكیر والتعبیر والتصویریة وترابط أجزائه بالبیئة اللغویة والاجتماعیة والفكریة والبنیة الفنیة وبذلك تتمثل الظلال والأصلیة والحوادث والأفكار والانفعالات والآثار النفسیة الجمالیة فینفعل بما یوحی به من عواطف وصور الجمال وهذه هی قراءة الدارسین والمحللین للنصوص الأدبیة وغیرها.

أمّا القراءة من منظور اصطلاحی، فهی آلیة تفكیك الشّفرة اللغویة المتمثلة فی تداخل شبكة العلامات والإشارات اللغویة ضمن سیاق محدد تعدّ الجملة وحدته الأولى، وبما یكفل الوقوف على بنیة النصّ الأساسیة والتی یقسمها العالم اللغوی ناعوم تشومسكی، إلى بنیتین: إحداهما فوقیة سطحیة وأخرى تحتیة عمیقة.

لكن اللسانیات بحكم امتلاكها، فی رأینا على الأقل، كلَّ العناصر والإجراءات الجدیرة لقراءة النص الأدبی قراءة شاملة كاملة، وبحكم أنّ وضعها المعرفی یجتزئ أصلا، بالبحث فی النّظام اللغوی البشری لدى حدود الجملة لا ینبغی له أن یتجاوز حدودها النّحویة، وبحكم أنّ هذا الوضع المعرفی لا ینبغی أن یتیح لها أن تمضی بعیداً فی أدغال النصّ الأدبی ومجاهله ومكان الجمال فیه، فإنّ الأسلوبیة-بحكم تفرّعها عن اللسانیات-أوشكت أن تغتدی میكانیكیة الإجراءات بحیث تراها لاهثة جاهدة إلى الكشف عن نظام الأسلوب من خلال الجملة، أی البحث فی عناصر الجملة من فعل وفاعل ثم مفعول، أو من فعل وفاعل ثم حال، أو من فعل وفاعل ثم تمییز، أو من فعل وفاعل وجار ومجرور، أو من مبتدأ وخبر، وغیرها، وذلك وفق نظام تعلیق لا یكاد یجاوز البحث فی التركیب اللغوی وتبادل البنى النّحویة فی نصّ من النّصوص.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تشومسكی نفسه تساءل فی أحدث كتاباته عما إذا "كان مستویات أخرى غیر المستویین الوجیهین السابقین (البنیة السّطحیة والبنیة العمیقة) الذین افترضا فی البحث المعاصر؟ فأجاب من حیث رأى أنّ"ما اصطلح على تسمیته بـ" برنامج الحد الأدنى" جهداَ یُوجبُ إخضاع الافتراضات التقلیدیة للتقصّی المتأنّی من منطلق أنّ أكثر القضایا تبجیلاً أنّ للغة صوتاً ودلالة، وتُترجم هذه القضیة، فی المصطلحات الجدیدة بشكل طبیعی، إلى الدعوى التی تقتضی بأن الملكة اللغویة)تلتقی بالأنظمة الأخرى للذهن/الدّماغ عند مستویین وجیهیَّیْن یتّصل أحدهما بالصوت والآخر بالدلالة، الأمر الذی یجعل كلّ ما حلّل بموجب مستویی " البنیة السّطحیة والبنیة العمیقة" كان ضحیّة لخطأ فی الوصف، وأنه یمكن أن یُفهم بشكل مماثل أو أفضل فی ضوء شروط المقروئیة فی المستویین الوجیهیّیْن: ویعنی هذا، عند المطّلعین على الأبحاث المتخصّصة، مبدأ الإسْقاط، ونظریة الرَّبْط، ونظریة الحالة الإعرابیة، وشرط السلسلة، وغیرها.

كما تعدّ القراءة، كما یراها أصحاب نظریة التلقی التی تؤمن بأن القارئ یشارك فی كتابة النص، هی عملیة نفسیة حركیة تختص بإعادة الأثر الأدبی أو النص إلى مدركات أولیة عبر إعادة تفكیك الإشارات اللغویة وموازنة العلاقة بین مجموعة الدوال مع المدلولات فی الجملة الواحدة ومن ثم النص كاملاً. وهنا نرى أن القراءة فعل تأویلی،لأنها مطالبة وقادرة على إضاءة النص وعلى نحو یتیح للقارئ اكتشاف البنیة الداخلیة للعمل، لذا فـإنّ مهمّة الناقد الأدبی الجدیدة تنحصر فی الاهتمام بنوعیة العلاقة بین النصّ والمتلقی، وذلك انطلاقاُ من هذه الأسئلة المعهودة: كیف انفعل القارئُ بالنصّ؟ هل كان ردّ فعله محض "استهلاكه" بكیفیة نمطیة ومرضیة تجرى على نسق مطرد رتیب فی قراءة الأدب، أو هو نوعٌ من الإخفاق فی إكراه هذا النصّ على قول ما یریده القارئ أن یقوله، أو أنّه سیندهش بجدّته التی كانت تكیّف تعاطیه للأدب، ومن ثمّ بمعانقته هذا الأفق الجدید والمختلف الذی یصدر عنه ذلك النص.

لنتصورّ الآن أن ناقداً قرأ مسرحیة كومیدیة أو شاهدها معروضة، فإنّ التفاعل معها سیتمّ التوافق العفوی بین أفق النصّ وأفق التلقی طالما أنّ المسرحیة قد أجابت عن أسئلته واستجابت لانتظاراته. وسیقوم هذا دلیلاً على أنّها نُسخة مطابقة لأصلٍ جاهزٍ تكَرِّرُ موضوعه أو صورةٌ موافقةٌ لمعیارٍ تجترُّ شكله. لكن النّاقد نفسه سرعان ما یشعر بالغُبْن ومن ثم یخیبُ أفق توقّعه إذا قام بمراوغة تقوم على مداراة هذه المسرحیة بأن یقرأها كما لو كانت مسرحیة تراجیدیة على طریقة "راسین" (1639-1699) أو ملحمیة على طریقة"بریخت" (1898-1956). بید أنّه إذا قرأ أو شاهد مسرحیة عبثیة من ذلك النّوع الذی یكتبه "صمویل بیكیت" (1906-1989) أو "أوجین یونسكو" (1909-1994)، وكان ذا دماثة فكریة تؤهله تلقائیاً لتقبُّل صدمة هذا المسرح المختلف، ولارتضاء آثاره فإنّه سیكفُّ عن الهوس بالجمالیة الكومیدیة بل وقد تتغیّرُ نظرته إلى الأشیاء وإلى الوجود من حیث تصبح سوداویة بعد أن كانت تفاؤلیة.

وتبدو هذه الأمثلة المتفرقة بسیطة جدا لو قارناها بجملة المتغیرات الدلالیة للنص، وأخص بالذكر هنا النص الأدبی والنص الشعری على وجه التحدید. فقد أجمع النقاد على أن إشكالیة الأدب تأتی من طبیعة اللغة ذاتها، أدبیة النص، والتی تعمل على توظیف الآلیة اللغویة بعیدا عن معناها التداولی البسیط نحو ما یعرف باستكشاف جمالیات اللغة عبر "المجاز. والمجاز عموما هو عملیة تطویع لغوی ضمن إطار یتجاوز المعجم وصولاً إلى التسییق بما یضفی على اللفظ رونقاً یخرجه من حیّز الحقیقة إلى رحابة المجاز الذی تتیح للمفردة الواحدة أن تخدم وظیفة تعبیریة جمالیة فی آن معاً.

هذه الجمالیة التی، وإن كان بإمكانها أن تُسهم فی اكتمال المهامّ التی یتعیّنُ أداؤها على "نظریة الفن وتاریخه" اللذین هما فی طور التجدید وإحداث قطیعة جذریة مع الأعراف العلمیة المقرّرة، إلاَّ أنَّه لا یمكن لها "أن تدّعی لنفسها أنّها إبدال منهجی بالتّمام والكمال". فلیست جمالیة التلقی "نظریة مستقلّة قائمة على بدَهیات تسمح لها بأن تحلَّ بمفردها المشكلات التی تواجهها، وإنّما هی مشروع منهجی جزئی یحتمل أن یقترن بمشاریع أخرى وأن تكتمل حصائله بوساطة هذه المشاریع. "وأنا إذ أقرُّ بذلك، أترك لغیری-شریطة ألاَّ یكون خصماً وطرفاً فی آنٍ واحدٍ-عنایة تقریر ما إذا كانَ ینبغی، فی مجال العلوم التأویلیة الاجتماعیة، اعتبارُ هذا الاعتراف بالنّقص من لدن منهج ما علامة على ضعفه أو على قوّته".
*خاتمة:

بعد هذه الإطلالة التی أردناها متكاقئة على جهود بعض الدّارسین المحدثین عرباً وأعاجم فی تطویق تحلیل النص أو الخطاب فی المعجم والدلالة والنظریة وما یدخل فی فلكهما من مصطلحات ذات الصلة، ارتأینا أن نلتمس بعض العُذر (المفضی إلى الأسف) للمحدثین من العرب على محاولة الحفاظ فی عَنَت على ماء الوجه التنظیری على النّحو الذی فكّر فیه معاصروهم من الأعاجم، أو بعض أسلافهم من الشّعراء المحدثین، الذین ضاقوا ذرعاً بأغراض الشّعر القدیم وأشكاله وما برع فیه القدماء من وصف ورثاء ومدح وغزل، فجدّدوا من حیث جدّد الغربیون التوّاقُون إلى طلب الجدید والتجدید، فبادروا إلى التنظیر على التنظیر، والذی أضحى على أهمیته كالكساء الفضفاض نقحم فیه حساسیتنا إقحاماً باسم المعاصرة والحداثة دون أن یتمازج ذلك مع ما نستجلبه أو نسقطه من أحدث التقنیات والنظریات الغربیة هی تجربة حساسیتها، ولها خصوصیتها وتفرّدها وكلّ ما یمیّزها عن خصوصیة حساسیتنا وتفرّد لغتنا، الأمر الذی لا ینقص من أهمیة التنظیر فی شیء، والإفادة مما فی أیادی غیرنا بما یمثّل حواراً مع حاضرنا، لكن دون أن نسقط فی جلب اللّعب الثقافیة الخالیة من حرارة التجربة الحسّیة، ونقع فی الفوضى المصطلحیة التی یزید فی استفحالها ما یفد علینا آنیّاً من مصطلحات فیضیق بذلك مجال التطبیق اتساعَ مجال التنظیر، فلا نمسك عندها إلاَّ بالجانب الضنین من هذه التجربة أو ما اصطلح علیه حدیثاً بـ "البریكولاج اللغوی وهو أمرٌ نبّه إلیه الأسلاف وحذّروا من مغبّته، "فقد قال أبو بكر بن السرّاج (ت 316هـ) فی رسالته فی الاشتقاق، فی (باب ما یجبُ على النّاظر فی الاشتقاق أن یتوقّاهُ ویحترس منه): ممّا ینبغی أنْ یَحْذَرَ منه كلُّ الحَذَر أن یَشتقَّ من لغَة العرب لشیءٍ من لغة العَجَم، فیكونَ بمنزلة من ادّعى أنَّ الطَّیْرَ وَلَدَ الحُوت". فإذا صدق ذلك على اللفظ فالمعنى به أولى.

ونحن أمام تعریف للنصّ بات فیه أقرب إلى الخطاب وتحلیل یحتمل الإخلال كما قد یحتمل الموضوعیة، وأمام نقد لم تكتمل معالمه ومناهجه وتستقرّ مصطلحاته, ناهیك عمّا یعكسه من ظواهر سلبیة أهمها" التَّخَنْدق" و"التحیّز" و"المعیاریة" لا نملك-والحال هذه- إلا أن نفضّل القراءة الواعیة المتأنیة ونأخذ بها، على تعدّدها، وفق مستوى تذوّقی یدرك فیها القارئ العلاقات النحویة وطریقة الأداء اللغوی، والدلالات المركزیة والهامشیة والاجتماعیة الكامنة فی الأثر الأدبی بشقّیه الشعری والنثری الذی یحتمل أكثر من تأویل، ما دام "لا أحد- بحسب بارث: یعرفُ شیئاً عن المعنى الذی تمنحه القراءة للأثر الأدبی، ولا عن المدلول-وذلك، ربَّما، لأنّ هذا المعنى، اعتباراً لكونه شهوة، ینتصبُ فیما وراء سنن اللغة. فالقراءة وحدها تعشق الأثر الأدبی، وتقیم معه علاقة شهوة. فإنّ نقرأ معناه نشتهی الأثر (س)، ونرغبَ فی أن نكُونَه، وأن نرفض مضاعفته بمعزل عن كلّ كلام آخر غیر كلامه هو ذاتُه: إنّ التعلیق الوحید الذی یمكن أن ینتجه قارئ محض وسیبقى كذلك، هو المعارضة. وعلیه، فإنَّ الانتقال من القراءة إلى أیٍّ من الحدود أو الإسقاطات الأخرى فمعناه تغیُّر الشَّهْوة، وعلینا تَبـِعَةُ ما نقرأ.
المصادر والمراجع

أ. العربیة

*إبراهیم، طه أحمد: تاریخ النقد الأدبی عند العرب من العصر الجاهلی إلى القرن الرابع الهجری، مطبعة لجنة التألیف والترجمة والنشر، القاهرة، 1937م.

*ابن خلدون، عبد الرحمن محمد: مقدمة ابن خلدون، تحقیق درویش الجویدی، المكتبة العصریة للطباعة والنشر، ط2، صیدا، بیروت، 1416هـ-1996م

*ابن عرفة، عبد العزیز:الفعل الإبداعی فی جدلیة تلقیه وكتابته، الكتابة الإبداعیة بین حساسیة المرحلة ومعادلها الفنی أو التقنی، مجلة الفكر العربی المعاصر، یصدرها مركز الإنماء القومی، بیروت، لبنان، العدد 30/31، 1984م.

*ابن فارس، أبو الحسین أحمد بن زكریا: معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزیع، 1399هـ-1979م.

*ابن قتیبة، أبو محمد عبد الله بن مسلم:الشعر والشعراء، مطبعة بریل، لیدن المحروسة، 1902 م.

* ابن مصباح، وناس: ملاحظات أولیة حول الشروح الأدبیة، مجلة الحیاة الثقافیة، العدد 41 , 1986م.

*ابن منظور، أبو الفضل جمال الدین بن مكرم: لسان العرب، دار صادر للطباعة والنشر-دار بیروت , لبنان, 1956م.

*أبو زید، نصر حامد: الاتجاه العقلی فی التفسیر، دراسة فی قضیة المجاز فی القرآن عند المعتزلة، دار التنویر للطباعة والنشر، ط1، بیروت، لبنان، 1982م.

*أنیس إبراهیم ومنتصر عبد الحلیم والصوالحی عطیة، وأحمد محمد خاف الله: المعجم الوسیط، دار الفكر، بیروت.

* أمین، أحمد: النقد الأدبی، دار الكتاب العربی، ط4، بیروت، لبنان، 1387هـ-1967م.

*أوكان، عمر: اللغة والخطاب، أفریقیا الشرق، الدار البیضاء، المغرب، أفریقیا الشرق، بیروت، لبنان، 2001م.

*بارث، رولان: النقد والحقیقة، ترجمة إبراهیم الخطیب، مراجعة محمد برادة، مجلة الكرمل، العدد 2، 1984م.

*البغدادی، عبد القادر:خزانة الأدب، تحقیق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربی للطباعة والنشر، القاهرة، 1387هـ-1967م.

*تشومسكی، نعوم: آفاق جدیدة فی دراسة اللغة والذهن، ترجمة حمزة بن قبلان المزینی، منشورات المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، ط1، 2005م.

* ثودی، فیلیب وكورس، آن:بارث، ترجمة جمال الجزیری، مراجعة وإشراف وتقدیم إمام عبد الفتاح إمام، منشورات المجلس للثقافة ضمن المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، ط1، 2003م.

*الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر:البیان والتبیین، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجی، القاهرة.

* الجوالیقی، أبو منصور:المعرّب من الكلام الأعجمی على حروف المعجم تحقیق أحمد محمد شاكر، مطبعة دار الكتب المصریة، ط2، 1389 هـ - 1969م.

*جونی، عدی:إشكالیة الترجمة وثقافة النص، مجلة أفق الثقافیة الإلكترونیة، عدد فبرایر2000م.

* الخولی، أمین: التفسیر , معالم حیاته , منهجه الیوم، أخرجه فی كتاب مستقل جماعة الكتاب، 1944م.

*خیاط، یوسف:معجم المصطلحات العلمیة والفنیة، دار لسان العرب، بیروت، 1974م.

*دائرة المعارف الإسلامیة، ترجمة إبراهیم خورشید وآخرین، مطبعة الشعب، القاهرة.

*الرّاغبُ الأصبهانی، أبو القاسم حسین بن محمد: محاضرات الأدباء، بیروت.

*الزبیدی، السید مرتضى الحسینی: تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكویت ضمن سلسلة التراث العربی لوزارة الإعلام فی الكویت، 1391هـ-1971م.

*الزمخشری، أبو القاسم محمود:أساس البلاغة، دار المعرفة، بیروت، 1399هـ- 1979م.

*العاكوب، عیسى علی: التفكیر النقدی عند العرب، مدخل إلى نظریة الأدب العربی دار الفكر المعاصر، بیروت، لبنان، دار الفكر، دمشق، سوریة، ط2، 1423هـ-2002م.

*عروی، محمد إقبال: ظواهر سلبیة فی الخطاب النقدی الروائی-التخندق، التحیُّز، المعیاریة، مجلة آفاق الثقافة والتراث، تصدر عن دائرة البحث العلمی والدراسات بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، العدد53، السنة4، 1427هـ-2006هـ.

*الفیروزآبادی، مجد الدین محمد بن یعقوب:القاموس المحیط، دار الجیل، بیروت.

* فتحی، إبراهیم: معجم المصطلحات الأدبیة.

* قباوة، فخر الدین: محاضرات فی علوم اللغة، الدراسات العلیا، السنة الجامعیة 1984-1985م.

*قدامة بن جعفر: نقد الشعر، تحقیق كمال مصطفى مكتبة الخانجی، ط3، القاهرة، 1392هـ-1978م.

*قطب، سید: النقد الأدبی، أصوله ومناهجه، دار الفكر العربی، القاهرة.

*كلیطو، عبد الفتاح: الأدب والغرابة(دراسات بنیویة فی الأدب العربی)، دار الطلیعة، ط1، بیروت، 1982م.

*مؤمن، أحمد:اللسانیات، النشأة والتطور، دیوان المنطبوعات الجامعی، ابن عكنون، الجزائر.

*مرتاض، عبد الملك:القراءة بین القیود النظریة وحریة التلقی، مجلة تجلیات الحداثة، معهد اللغة العربیة وآدابها، جامعة وهران، العدد4، یونیو 1996م.

* المرعی، فؤاد: النقد الأدبی الحدیث، مدیریة الكتب والمطبوعات بجامعة حلب، 1981-1982م.

*مرغان، كلیفورد ودیز، جیمس: فن الدراسة، ترجمة جمیل مراجعة یوسف حورانی، منشورات دار مكتبة الحیاة، بیروت، لبنان، 1974م.

*مروة، حسین:دراسات نقدیة فی ضوء المنهج الواقعی، مكتبة المعارف، بیروت، لبنان، 1988م

*مفتاح، محمد: تحلیل الخطاب الشعری(استراتیجیة التناص)، المركز الثقافی العربی، الدار البیضاء، بیروت، ط3، 1992م

*یاوس، هانس روبیرت: جمالیة التلقی-من أجل تأویل جدید للنص الأدبی، ترجمة رشید بنحدو، منشورات المجلس الأعلى للثقافة، ضمن المشروع القومی للترجمة بإشراف جابر عصفور، القاهرة، 2004م.

*یوسف، أحمد:بین الخطاب والنص، مجلة تجلیات الحداثة، معهد اللغة العربیة وآدابها، جامعة وهران، العدد1، 1992م.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 19:3|