ربــــاعیـــات الـخیــــام
روعة الانتشاء ولوعة الفناء
روعة الانتشاء ولوعة الفناء
غدونا لذی الأفلاك لعبة لاعــب
أقول مقالا لست فیه بكـــــــاذب
على نطع هذا الكون قد لعبت بنا
وعدنا لصندوق الفنا بالتعاقــــب
عمربن إبراهیم الخیام
إذا كان المعری فی الشعر العربی هو " شاعر الفلاسفة وفیلسوف الشعراء" ذلك أنه ضمن شعره آراءه الفلسفیة فی الحیاة وخلاصة تأملاته وقراءاته فی الفكر الفلسفی وقد جمع ذلك كله فی "اللزومیات"، فحق لشاعر نیسابور وعالمها عمر الخیام أن یدعى شاعر العلماء وعالم الشعراء فقد جمع بین العلم الدقیق والفن الأصیل وزاوج بین التأمل فی العدد والتأمل فی الوجود، فجاء فی شعره كما جاء فی علمه فرادة إبداع وأصالة فكر وصدق فراسة وحرارة وجدان، وحق لزبدة إبداعه الشعری المعروفة بـ "الرباعیات" أن تنال مرتبة الخلود ومرتبة العالمیة ، ذلك أنها خیر ماأبدعته فارس من الشعر الجامع بین عمق الفكرة وجمال العبارة وصدق الشعور وحق لعمر الخیام أن یستوی بین شعراء فارس شاعرا فذا من كبار شعراء الانسانیة وأن تكون رباعیاته زادا فكریا وجمالیا وإنسانیا خیر ماتهدیه فارس إلى العالم .
وحیاة الخیام غامضة لانعرف عنها الكثیر وأول شك ینتاب الباحث هو تحدید تاریخ میلاده وقد تضاربت الروایات فی ذلك ومن المرجح أنه ولد فی النصف الثانی من القرن الخامس الهجری وقد عاش فی زمن السلاجقة وهو عصر تمیز بالإحن والدسائس والاغتیالات وأما لقب الخیام الذی اشتهر به فقیل أن والده كان صانع خیام، ولقد عرف الخیام منذ حداثة عهده بالألمعیة والذكاء، فحفظ القرآن الكریم وأتقن علوم اللغة والدین وآنس من نفسه المیل إلى الریاضیات والفلك فأبدع فیهما و بهما طار ذكره فی البلاد الاسلامیة وقربه الملوك والرؤساء وكان السلطان ملكشاه السلجوقی ینزله منزلة الندماء والخاقان شمس الملوك ببخارى یعظمه ویجلسه معه على سریره، وأما أصدقاؤه فی شبابه فهما "نظام الملك" و "حسن الصباح" الداعیة الفاطمی الذی فر إلى "ألموت" وهی قلعة أسس فیها حكم" الإسماعیلیین" الذین قضى علیهم "هولاكو" عام 1256 م ولما استوزر " نظام الملك " جعل لصدیقه عمر عشرة آلاف دینارا من دخل نیسابور إجلالا لمقامه وتقدیرا لعلمه، ووفاء لمیثاق الصداقة بینهما ثم اغتیل نظام الملك وانقطع دخل الخیام وقدحت العامة فی دینه ورمته بالزندقة فلزم التقیة، واختلف مؤرخو زمانه فی عقیدته وسیرته قال فیه البیهقی: " أنه تلو ابن سینا فی أجزاء علوم الحكمة وعرفه بالإمام وحجة الحق غیر أنه أضاف أنه كان سئ الخلق ضیق العطن وكان یتخلل بخلال من ذهب، أما ابن الأثیر فی الكامل فذكر أنه أحد المنجمین عملوا الرصد للسلطان ملكشاه السلجوقی سنة 467 هـ وقال عنه القفطی فی تاریخ حكماء الإسلام" إمام خراسان وعلامة الزمان یعلم علم یونان، ویحث على طلب الواحد الدیان، بتطهیر الحركات البدنیة لتنزیه النفس الانسانیة، وأما وفاة الخیام فمنهم من یجعلها سنة 515 هـ الموافق لـ1121 م ومنهم من یجعلها سنة 526هـ الموافق لـ 1132 م ومن مآثر الخیام العلمیة " شرح مایشكل من هندسة إقلیدس" و "مقالة فی الجبر والمقابلة" ، إضافة إلى أرصاده وأزیاجه الفلكیة، وقد قامت شهرة الخیام على الرباعیات وهی تلك المقطوعات الشعریة المقسمة إلى أربعة أبیات ضمنها فلسفته فی الوجود والملاحظ فی الرباعیات هو اتفاق البیت الأول والثانی والرابع فی الروی واستقلال البیت الثالث برویه وهو مایشبه كثیرا الدوبیت الرباعی الفارسی الأصل.
ولئن اختلف نقاد الأدب ودارسو حیاة الخیام فی صحة نسبة الرباعیات إلیه أو بعضها، فمن قائل أنها لیست لعمر الخیام الریاضی، وإنما لشاعر آخر بهذا الاسم، إلى ناقد آخر یزعم أن بعضها تصح نسبتها إلیه، وبعضها الآخر مدسوس علیه خصوصا ما تعلق بالإشارة إلى الغیب والقدر والإیمان والبعث، وقد تعمد كثیرون تشویه صورة الخیام غیرة وحسدا فنظموا شعرا ونسبوه إلیه حتى تثور علیه العامة وینتهی أمره إلى الحاكم الذی سیأمر بقتله رمیا بالزندقة، وفی أدبنا نظیر لذلك، فالمعری دس علیه الكثیرون شعرا لم یقله یثور فیه على الأدیان بل یسفهها وینتقد الرسل ویشكك فی عالم الغیب غیر أن المعری برئ من ذلك ومن قائل أن كثیرا من محبی الخیام والمتحمسین له كلما وجدوا شعرا على شاكلة الرباعیات وخفی علیهم قائله نسبوه إلیه عن حسن نیة.
ولاشك أن استقصاء الأمر صعب وتتبع مسارب التاریخ المظلمة فی ظل غیاب الوثائق التاریخیة التی تنیر حلكاته یجعل من الأمر شبه مستحیل !
ولقد رأى نقاد الأدب عندنا وشعراؤنا المحدثون الرأی الأول أی صحة نسبة بعض الرباعیات إلى الخیام وإنكار البعض الآخر وتحمسوا لها تحمسا منقطع النظیر، والحق أن الرباعیات تحفة فنیة وكنز أدبی حقیق بالخلود وحقیق بالعالمیة لأن مضمونها إنسانی، على الرغم من تأخر اكتشاف ذلك ولسكوت فیتزجرالد الإنجلیزی دالة على الخیام فهو الذی اكتشفها ودرسها وتحمس لها وترجمها إلى الانجلیزیة فأحدثت دویا كبیرا تجاوز إنجلترا إلى أروبا و أمریكا ، بل أسس فیتزجرالد نادیا فی لندن سماه " نادی الخیام " ضم كل محبی الخیام وشعره ، ولم یكتف بذلك بل سافر إلى مسقط رأس الخیام وزار قبره و أحضر معه زهرة من الزهور الحافة من حول القبر وغرسها فی نادیه بلندن حتى تنفحهم بأریج الشاعر و أریج رباعیاته ، ودعك من الأسطورة التی روج لها الكثیرون من محبی الخیام والتی تزعم أن الخیام تنبأ فی حیاته بنمو نوع معین من الزهور حول قبره ، وهذا اللون من القصص نعرف المغزى منه، فالشخصیة التاریخیة یخلق محبوها أساطیر حولها حتى یستلوا مشاعر الإعجاب من الناس ویخلقوا هالة من القداسة لأن النفس المحبة تنزع إلى أن تشاركها الأنفس مشاعرها ، غیر أن الناقد الحصیف لا یفوته ذلك ،وباكتشاف فیتزجرالد للخیام وترجمته لرباعیاته تنبه أدباؤنا ونقادنا إلى قیمة الرباعیات ومضمونها الانسانی وغناها الشعوری وقیمها الفنیة والجمالیة وتحمسوا لنقلها إلى لغة الضاد ومنهم من عربها عن الإنجلیزیة كمحمد السباعی ومنهم من عربها عن الفارسیة كالشاعر المصری أحمد رامی الذی سافر إلى باریس لدراسة اللغة الفارسیة عامین منقبا وباحثا فی الأدب الفارسی ورباعیات الخیام تحدیدا ،وعقب عودته توظف أمینا بدار الكتب المصریة وكان قد تهیأ له زاد أدبی فأسقط كثیرا من الرباعیات وعرب ما وثق أنه تصح نسبته إلى الخیام وقد شاعت هذه الترجمة بعد أن غنت أم كلثوم بعضا منها .
وربما كان فی ترجمة رامی بعض التصرف غیر أنه سعى جهده حتى لا یتقول على الخیام ما لم یقله أوأن یخرج عن روح الرباعیات ساعیا جهده فی ذات الوقت أن تكون الرباعیات فی العربیة تحفة بیانیة و إنسانیة وغیر السباعی ورامی من الذین ترجموا الرباعیات الشاعر العراقی جمیل صدقی الزهاوی و أحمد الصافی النجفی وقد عرباها عن الفارسیة، وودیع البستانی و الشاعر البحرینی إبراهیم العریض الذی توفی حدیثا وقد عرباها عن الإنجلیزیة ، ولیست هذه هی كل الترجمات إنما المشهور منها وستبقى بسحرها ومضمونها الإنسانی وحیرتها الوجودیة مصدر إغراء للأدباء العرب على مر الأجیال وكر الدهور بنقلها كرة أخرى إلى العربیة إمعانا فی الدقة والقرب من روحها وروح مبتكرها .
فرباعیات الخیام إذا ترنیمة حزینة تنعى إلینا زوال الانسان وهیمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات المتعة شقوة وانقلاب أیام الانسان مجرد ذكرى شأن الجذوة تشع نارا ونورا ثم تخبو رمادا و الانسان لا حول له و لا قوة أمام هذا القهر الكونی المتجلی فی الموت الذی یطال بسیفه الانسان ثمرة الوجود ومكمن العبقریة وسر الحیاة ومستودع المشاعر فیغدو ذلك الكائن رهین اللحد والدود والظلام الأبدی كأن لم یكن بالأمس ذلك الشاعر أو العالم أو الحاكم أو الفقیه أو الثری الذی ملأ الأسماع و الأبصار ، وتغدو لحظات صفوه و أنسه مجرد ذكرى ، فما الذی ینقذ الإنسان من هذا المأزق الوجودی ؟ لا شیء غیر طلب النشوة التی تهیؤها الخمرة والبهجة التی ینشرها مجلس أنس وذلك عزاؤه وذریعته إلى تناسی فجیعة الموت مادام لیس فی الإمكان تفادی قبضته . قال الخیام ( من ترجمة إبراهیم العریض من المتقارب )
أفق یا ندیم استهل الصبـــاح
وباكرصبوحك نخب الملاح
فمكثك بین الندامى قــــــــلیل
و لا رجعة لك بعد الـــرواح
فهات حبیبی لی الكأس هات
سأنسى لها كل ماضی وآت
غدا ویح نفسی غدا قد أعود
وأعرقهم فی البلى من لداتی
ولیست فجیعة الزوال مشاعر حوم حولها الخیام لوحده فطرفة بن العبد الشاعر الجاهلی الذی قتل فی سن السادسة والعشرین تناول ذلك فی شعره
ألا أیهذا الزاجری أن أحضر الوغى
و أن أشهد اللذات هل أنت مخلدی ؟
فإن كــنت لا تستــطیع دفــع منیتـی
فـــدعنی أبــادرها بما مـــلكت یدی
ویقول كذلك :
لعمرك إن الموت ما أخـــطأ الفتى
لكـــالطول المرخى وثنیاه بالیــــــد
متى مــــا یشــأ یومـــا یقده لحتفه
ومـــــــن یــك فی حبل المنیة ینقد
غیر أن الخیام یمتاز عن طرفة وغیره ممن تناولوا فجیعة الرحیل بإ بداع معمار فنی ضمنه فلسفته الوجودیة من المقطع الأول إلى المقطع الأخیر دون أن ینصرف إلى أشیاء أخرى أو یتناقض مع نفسه وذلك هو امتیازه الكبیر .
و للخمرة حضور قوی فی الرباعیات بل هی محورها الأساسی ألیست مهوى القلوب ومطلب الأنفس الشاعرة وملجأ المعذبین یتوسلون بها عرائس الشعر علها تجود علیهم بآیات العبقریة بل حتى المتصوفة وهم رهط من الناس انقطع إلى العبادة والتأمل والمجاهدة طلبا للعرفان وقد عرف هذا الرهط بالتقوى وقیام اللیل وماذاقوا خمرة فی حیاتهم قط، لم یجدوا غیر الكرمة والخمرة والكأس یكنون بها عن الحب الإلهی والانتشاء به، متناسین دنیاهم منقطعین عن العالم متوحدین فی الأباطح والقلل،ألم یقل ابن الفارض مكنیا بالخمرة عن الحب الإلهی:
شربنا على ذكر الحبیب مدامــــــة
سكرنا بها من قبل أن تخلـق الكرم
صفاء ولامــاء ولطف ولاهـــــــوا
ونـور ولا نــــار وروح ولا جسم !
وقــالوا شربت الإثم كلا وإنمـــــا
شربت التی فی تركها عندی الإثم !
أما خمرة الخیام فهی بنت الكروم وقعیدة الدنان هی خمرة حقیقیة ولیست مجازیة هی سلوى الراحل وعزاؤه وذریعته إلى النسیان بها تقر عینه وتنتشی نفسه، ویسكن رأسه فلا جرم أن یطلبها ملحا فی طلبها قبل ساعة الرحیل:
سیحیا لحبك قلبی المــــــعنى
لطرفك یسقی مع الخمرخمرا
لجورك مـــــادام وعدك منـا
فیبدع فنا وأبدع فنـــــــــــــا
فجدد مع الكأس عهد غرامك
وحل مـــــــرارتها بابتسامك
وعــــجل فجوقة هذی الطیور
قد لا تطیل الطواف بجامك
وأما المقاطع التی تغنت بها سیدة الغناء العربی وكوكب الشرق الراحلة السیدة أم كلثوم ومن ترجمة صدیق عمرها الشاعر الكبیر أحمد رامی فمن البیت الأول یبتدأ حدیث الخمرة والزوال غیر أن أم كلثوم وصاحبة العصمة كما كانت تدعى ، والتی كانت تتمنع عن الغناء فی مكان تدور فیه الصهباء وهی المعروفة بعفافها وتقواها وحرصها على أداء الصلاة، وقد تمیزت عن جل المغنیین فی زمنها بثقافة أدبیة عریقة، وذوق فنی عالی غذته بقراءة دواوین فحول الشعراء وأمهات كتب الأدب كالأغانی والعقد الفرید وخزانة الأدب وغیرها من كتب الأدب، ولم تشأ أن تذكر الخمرة فیما تغنت به من شعر الخیام فغیرت كلمة" الحان" إلى كلمة " الغیب" وعدلت عن كلمة " الطلى" إلى " المنى" فغنته وفقا لسلوكها وشخصیتها .
قال الخیام من ترجمة رامی من بحر السریع كما تغنت به أم كلثوم:
سمعت صوتا هاتفا فی الســــــحر
نادى من الغیب غفاة البشـــــــــر
هبوا املأوا كــأس ا لمنى قبل أن
تفعم كأس العمر كف القــــــــــدر
وأما ترجمة العریض عن النص الإنجلیزی لهذا المقطع بالذات فجاءت هكذا ( من المتقارب ) :
لقد صاح بی هاتف فی السبات
أفیقوا لرشف الطلى یاغفــــــاة
فما حقق العمر مثل الحبــــاب
ولاجدد العمر مثل الســـــــــقاة
وبین المقطعین اختلاف فی إصابة المعنى الذی أراده الخیام والراجح أن رامی الأقرب إلى إصابة المعنى باعتباره عربه عن الفارسیة رأسا، غیر أن هذا یخلق إشكالیة فی الأدب تذهب حد اتهام الترجمة بالخیانة أی خیانة النص الأصلی والخروج عن معانیه الدقیقة وذلك راجع لاختلاف روح اللغة المترجم عنها والمترجم إلیها، وقد كان الجاحظ یرى أن الشعر لا یترجم بهذا المعنى !
لقد كان الخیام إذا عقلا باحثا فی علة الوجود ونفسا لا تركن إلى یقین، وأراد أن یتجاوز فی فهمه للوجود النصوص الدینیة معتمدا على تفكیره الحر وثقافته الفلسفیة التی استمدها من الفكر الیونانی وربما الهندی وهو من الذین یحق علیهم قول أبی الطیب :
ذو العقل یشقى فی النعیم بعقله
وأخو الجهالة فی الشقاوة ینعم
وفی الرباعیات إشارة إلى مكابدة المعرفة وجحیم الشك والمجاهدة فی سبیل الیقین لولا أن العمر لا یفی بذلك (من السریع):
أحس فی النفس دبیب الفــــــناء
ولـــــم أجن من العیش إلا الشقاء
یاحسرتا إن حان حینی ولم یتح
لعقلی حل لغز الــــــــــــــقضاء
وهو فی شعره یسمح لعقله بأن یوغل فی التفكیر فی مسائل الغیب وتقلیب الأمر على وجوهه كمجىء الانسان إلى الدنیا اضطرارا والغایة منه، لكن التفكیر لا ینتهی بالشاعر إلى یقین قال الخیام( من ترجمة رامی من السریع):
لبست ثوب العیش لم أســــــــتشر
وحرت فیه بین شتى الـــــــــــــفكر
وسوف أنضو الثوب عنی یوما ولم
أدرك لماذا جئت، أین المـــــــــــــفر
فلیطلب الشاعر شیئا من العزاء فی حضرة الكأس ألا إن لحظات النشوة بدل من خلود فما أغلاها من بدل والخمرة تثیر فی النفس قابلیات صوفیة، فقد نص ولیم جیمس على أن قوة الكحول راجعة بلا شك إلى قدرته على إثارة القابلیات الصوفیة وهی ذلك المد من الطوفان الذی ینبثق من الدفء الداخلی والنشاط الحی وهی مستعصیة فی أوقات الصحو لارتباطها بالمتطلبات والشكوك والإنطباعات الذاتیة وقوة الكحول تأتی من قدرته على شل هذه الدیدان الماصة للحیویة، تاركة الحرارة الحیویة لتتجمع وتشكل نوعا من الخزان الداخلی الذی هو فی مضمونه تركیز للطاقات للوصول إلى لحظة "الذاتیة الداخلیة" .
والخیام الشاعر كما یحتفی بالخمرة یحتفی بالجمال ذلك أن قدرة الخمرة فی إحداث التركیز تتیح للشاعر طرح كل همومه وأحزانه ووساوسه والتأمل فی الجمال والإحساس به وتذوقه فی الطبیعة والانسان، وقد عشق الخیام الفتاة" نسرین" والتی اقتبست من الزهر اسمه وشذاه وجماله لولا أن عصفت بها ریح المنون فی مقتبل العمر فأورثت الشاعر حسرة وعمقت فیه الإحساس بجبروت القدر وقهره وعدم استجابته لرغائب النفس وأحلامها، وفی أحضان الجمال یسهو الشاعر قلیلا عن لوعة الفناء ومن ترجمة العریض من (المتقارب) یقول الشاعر :
ویالیت شعری أتلك الزهور
عرائس نعمى جلتها الستور
فمن قبلة الشمس هذا الحیاء
ومن لؤلؤ الطل ذاك السرور؟
وجوهر الجمال هو النزوع إلیه وتعشقه تعشق الفراش للنور والهیام به لأن فی الحب سلوى عن زوال الموجود:
قال الخیام من ترجمة رامی( من السریع):
أولى بهذا القلب أن یخــــــفقا
وفی ضرام العشق أن یحرقا
ماأضیع الیوم الذی مربـــــی
من غیر أن أهوى وأن أعشقا !
وفی الرباعیات ظاهرة لایمكن إغفالها تتعلق بنقد الناس والتندید بالنفاق وتعلق الناس بالمظاهر مهملین الجوهر، ویبدو أن الشاعر عانى من ألسنة الناس وخاصة عوامهم كما عانى من مطاردة الفقهاء له الذین ربما رموه بالمروق عن الدین والفسق والعربدة، ولذا صب الخیام جام غضبه على هؤلاء الناس متهما إیاهم بالنفاق، واقرأ ذلك كله فی هذین البیتین من ترجمة جمیل صدقی الزهاوی( من الخفیف):
قال شیخ لــمومس أنت سكرى
كل آن بصاحب لك وجــــــــــد
قال إنی حـــــــقا كما قلت لكن
أنت حقا كمــــــــــا للناس تبدو؟
ومع تصریح الشاعر بطلب المتعة والنشوة تناسیا لأوصاب الوجود وجحیم الشك وعذاب الفكر وسلاطة ألسنة الناس ظل فی عقله الباطن یحمل تبعة الإحساس بالذنب وهو المسلم الذی یتلو من القرآن آیات تنص على حرمة الخمر واعتبارها من الموبقات، وعن العذاب الذی أعده الله لمتعاطیها إن لم یكفوا عنها،غیر أن الشاعر سیجازف بطلبها إلى آخر رمق من حیاته معتمدا على إیمانه بالله وبوحدانیته وعلى فعله المعروف وإحسانه إلى الفقراء لیسلم من النقمة وفوق ذلك كله ملتمسا عفو الله الذی أوصى عباده أن لا یسرفوا على أنفسهم لأن الله یغفر الذنوب جمیعا. قال الخیام من ترجمة مصطفى وهبی التل( من الطویل):
إلهی قل لی من خلا من خطــــــیئة
وكیف ترى عاش البرئ مــــن الذنب ؟
إذا كنــــــــــت تــــجزی الذنب بمثله
فـمـــا الــفـرق بـیـنـك وبـیـنی یاربی؟
فلیسع الشاعر إلى الحان طالبا لحظات الصفو مع ندمائه، ملتمسا السعادة من دنان بنت الحان ولیشفع له إیمانه بالله ووحدانیته، كما قال: من ترجمة العریض(من المتقارب):
لئن قمت فی البعث صفر الیدین
وعـــــــــطل سفری من كل زین
فیشـــــــــــفع لـــی أنـــنی لم أكن
لأشرك بالله طرفة عیــــــــــــــن
وذلك ما حدا بالشاعر إلى اختتام رباعیاته بتلك الأبیات التی تنم عن حرارة إیمانیة وتسلیم بوحدانیة الله وأمل فی عفوه متوسمة عطفه ورحمته، ومن ترجمة رامی( من السریع):
یـــــاعالم الأسرار علم الیقین
یاكاشف الضر عن البائسین
فئنا إلى ظلك فــــــــاقبل عن
عـــبــــادك تــــوبة التـــائبین
وهی عودة إلى شاطئ الإیمان بعد التیه فی أقیانوس التفكیر وفیافی التأمل والبحران وما یلقى صاحبه من مكابدة ومجاهدة وعذاب نفسی كبیر ولربما استعان الشاعر بیقین الریاضیات على شكوك الانسانیات ولربما أعطته نتائج الریاضیات بعض الراحة والعزاء فأوغل فی هذا العلم إیغالا منقطع النظیر فتوصل إلى نتائج قیدت باسمه كحل معادلة من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط، وطبق الریاضة على الفلك ذلك العلم الذی یعنی فی لاوعیه المطلق والسامی والعالم الحر بلا حدود وهی مفاهیم یتعشقها الخیام، وله فی الفلك بحوث جدیرة بالإعجاب والتقدیر، ولربما استعان الشاعر بالخمرة كما یرى ولیم جیمس حتى یصل إلى مرتبة الذاتیة الداخلیة ویشل فی نفسه وعقله كل الدیدان الماصة للحیویة فیندغم بنشوة الخمرة فی الوجود فتصبح الذات والموضوع واحدا، خاصة إذا رأى الإنسان أن المعرفة لا تنتهی بالانسان إلى معرفة كل ما یجهله لأن العمر ذاته قصیر ألم یقل المتنبی ذات مرة:
ومن تفكر فی الدنیا ومهجتــــه
أقامه الفكر بین العجز والتعب !
ومن ثمة یغدو الإحساس بالوجود وبمحاولة الإندغام فیه ومعالجته بالذوق خیر ما یسعف المتأمل إذا استعصى علیه تحویل الوجود إلى موضوع یشبعه بحثا ودرسا واستقصاء كذلك كان الخیام فی علمه وفی شعره وفی سیرة حیاته عقلا جبارا لاینی یفكر ویدرس ویستقصی، وقلبا إنسانیا رقیقا انطوى على أنبل المشاعر، ونفسا إنسانیة كذلك رهیفة نأت عن النفاق والأنانیة والكذب والحسد والشره وهی من أرذل الصفات التی ندد الخیام بها، وقد أهدى إلینا فتى نیسابور " الرباعیات " وهی فی رأینا أجود آثاره وأجل أعماله،ذلك أن العلم الریاضی والفلكی اللذین مارسهما الشاعر تجاوزهما العلم الحدیث ولم تعد لهما من قیمة- اللهم إلا تتبع تاریخیهما وآلیة تطوریهما – ولقد أهدى إلینا شعراؤنا وأدباؤنا رباعیات الخیام فی حلة عربیة قشیبة فكانت فی العربیة كما كانت فی الفارسیة آیة من آیات البیان والفكر والشعور .
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 18:24|