البوصیری (محمد بن سعید ـ)
(608 ـ 696هـ/1212 ـ 1296م)
محمد بن سعید الحبنونی الصنهاجی من شعراء مصر، وهو صاحب قصیدة «البردة»، ولد فی «بهشیم» من أعمال «البهنسا»، ونشأ فی «دلاص» من قرى بنی سویف، وكان أبوه من ناحیة «بوصیر»، فركّب له منهما نسبة، ونعت نفسه بـ «الدلاصیری»، ولم تشتهر هذه النسبة، وإنما عرف بـ «البوصیری».
تلقى علومه الأولى فی بلده، فحفظ القرآن، ثم انتقل إلى القاهرة، فأتم دراسته الدینیة، وتضلّع من علوم الحدیث النبوی، ویتضح ذلك فی قصیدته الدینیة المشهورة «المخرج والمردود على النصارى والیهود»، وهی مؤلفة من 125 قسماً و291 بیتاً، شفع كل قسم بشرح نثری لما ورد فی التوراة والإنجیل لیؤید شعره الدینی تعلیقاً وتوضیحاً.
كان البوصیری من أجود الناس خطاً، فكان یكتب الألواح التی توضع على شواهد القبور، یضاف إلى ذلك أنه أخذ التصوف عن أبی الحسن الشاذلی (ت656هـ)، فقد تتلمذ علیه زمناً، كما أنه صحب أبا العباس المرسی (ت686هـ). والمعروف عن البوصیری أنه عُیّن فی دیوان الإنشاء، ثم نقل إلى الشرقیة، واستقر بعد ذلك فی بلبیس.
یمكن أن یصنّف شعر البوصیری فی اتجاهین كبیرین: أولهما شعره الاجتماعی النقدی المتمثل فی بعض الأغراض كالمدح والهجاء والوصف، وثانیهما: شعره الدینی، ویبحث عادة فی ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: شعره الذی نظمه قبل زیارة الحجاز، وهو مقصور على أربع قصائد. المرحلة الثانیة: شعره الذی نظمه فی أثناء الزیارة، وهو مقصور على ثلاث قصائد. المرحلة الثالثة: شعره الذی نظمه بعد الزیارة وهو مقصور على قصیدتین، هما الهمزیة والبردة، وهما أجمل مدائحه النبویة. وتعد البردة أشهر شعره النبوی على الإطلاق، وتدعى كذلك «البُرْأَة» وعرفت باسم «الكواكب الدریة فی مدح خیر البریة»، ونعتها ابن قنفذ بـ «البردة فی مدح من هو خیر عدّة»، وتتألف البردة من عشرة أقسام كبرى، وعدد أبیاتها 162 بیتاً، وقیل إن البوصیری قد أصیب بفالج أبطل نصفه فنظم قصیدته وكرّر إنشادها لیعافیه الله ممّا ابتلاه، ثم نام بعد إنشادها، ورأى فی نومه الرسولr فمسح على وجهه، وألقى علیه بردة بعد أن استمع إلیه وهو ینشدها، وحین انتبه من نومه وجد فی نفسه نهضة وشفی ممّا كان فیه.
وللبردة قیمة دینیة كبرى، وأهمیة عظمى لأنها تعدّ قمّة المدائح النبویة، وأصبحت المثل المحتذى لمن جاء بعده حتى العصر الحدیث، وأما قیمتها الأدبیة فتتجلى فی معانیها وأسلوبها ومنهجها وابتعادها عن التكلف والتصنّع، إلا ما جاء عفو الخاطر. أما أقسامها العشرة فهی النسیب النبوی والتحذیر من هوى النفس، ومدح الرسولr وذكر مولده ومعجزاته وأهمیة القرآن وذكر الإسراء والمعراج والتشفع والمناجاة والاستغفار.
كثرت شروح البردة، فذكر بروكلمان 79 شرحاً، وعدّ آلورتW.Ahlwardt 31 شرحاً، وبعض هذه الشروح بالفارسیة والتركیة.
وللبردة ترجمات عدیدة، فقد ترجمها إلى الفرنسیة كل من ر.باسه R.Basset، وسلفستر دو ساسی S.de Sacy، كما ترجمت إلى الإنكلیزیة والألمانیة والهندیة والتتریة فی قازان، والألبانیة والبوسنویة، وغیرها. وللبردة طبعات كثیرة قدیماً وحدیثاً، فقد طبعت فی القاهرة وحدها أكثر من خمسین طبعة، كما طبعت فی غیرها.
اختلفت وجهات نظر النقّاد فی شعر البوصیری، فمنهم من رفع من شأنه ومنهم من أزرى به، إلا أن أكثرهم یذهب إلى الإشادة بشعره ذی الموضوع الدینی. ویمكن أن یمیّز مذهبان فی أسلوبه الفنی، الأول: الوضوح والسهولة الملتزمان فی شعره عامة. الثانی: الجزالة والأصالة فی شعره النبوی خاصة. أمّا ما یتصل بالمذهب الأول فقد كان الشاعر یحرص على اختیار الألفاظ الواضحة والأوزان السهلة، ذلك لأن الوصف وتصویر الحیاة الاجتماعیة یحتّمان علیه استخدام هذا الأسلوب الذی یجعل شعره مقبولاً لدى الناس عامة. وأمّا المذهب الثانی الجزل فقد قصره على شعره الدینی والنبوی، إذ كان یستخدم الألفاظ الجزلة المطبوعة بالطابع الدینی المستمدة من القصص النبوی والإسلامی، والمتعلقة بالمعجزات، إضافة إلى ما فی نبویاته من المناجاة والتضرّع والتوسل والتشفع بالرسول الكریمr. وقد راجت أشعار البوصیری بین الناس فحفظوها وتناقلوها وخمّسوها وشطّروها وعارضوها قدیماً وحدیثاً لرقّتها وتعبیرها عن مشاعرهم فی مثل هذه المناسبات.
ویمكن القول إن البوصیری یمثل حركة شعریة رائدة، استطاع أن یرتفع فیها بالمدائح النبویة من طابعها التقلیدی إلى آفاقها الإبداعیة، وبذلك تغدو النبویّات البوصیریة أهم الأغراض الشعریة فی عصر الشاعر.
المراجع:
زكی مبارك، المدائح النبویة فی الأدب العربی (المؤسسة المصریة العامة للتألیف والنشر، القاهرة 1967).ـ محمد رجب النجار، بردة البوصیری، قراءة أدبیة وفولكلوریة، الرسالة الثالثة والثلاثون (جامعـة الكویت، كلیة الآداب).