ابزار وبمستر

الخیال الأدبی
الخیال الأدبی


 

یعرف الخیال عامة بأنه القدرة العقلیة على التجریب واستكشاف الجدید، وعلى البناء والتشكیل والمحاكاة والربط باستخدام صور ذهنیة تحاكی الطبیعة، وإن لم تعبر عن شیء موجود فی الواقع. وهو القوة التی تحرك المخیلة والإبداع والرؤى والفكر وتؤسس من ثم للفرضیات. وهو یختلف عن المخیلة fancy التی تستحضر الصور الذهنیة التی تسجلها الذاكرة وتتصرف بها بالتركیب والتحلیل والزیادة والنقصان والحذف والدمج، لتنتج تركیبة جدیدة، معقولة أو غیر معقولة لحد الغرابة، فتغدو عندها فانتازیا fantasia. ومن تعریفات الخیال أیضاً أنه قدرة الفنان على إسقاط مشاعره على موقف أو شخصیة أو مكان أو فكرة إسقاطاً ینتج من التفاعل المتعاطف مع أی منها، وهو الملكة التی تمكن الذهن من إبداع رموز للمفهومات المجردة، والمرادف الشعری أو الفنی للحدس الصوفی.

وقد اختلف الفلاسفة والنقاد والكتاب فی تعریف كلمة «الخیال» وتفسیرها وتحدید مفهومها، وسبب هذا الجدل هو أنها مصطلح معرفی إدراكی cognitive یتخذ معانی عدة باختلاف المضامین ونظریات المعرفة. فثمة من یرى أن الحواس تسیطر على الخیال، ومن یرى أنه تابع للأحاسیس، وهناك من یرجعه إلى العقل، إلا أن هناك إجماعاً على أهمیة الخیال فی الأدب، وإن اختلف النقاد والأدباء، كلٌ وفق انتمائه، فمنهم من وجد أن الخیال مصدر إلهام للأدب عموما، والشعر خصوصاً، إلا أن أهمیته لا تتعدى الإلهام الأولی للفكرة، ثم یتولى العقل عملیة التألیف الأدبی. ومنهم من رأى أن الخیال هو أساس الشعر موضوعاً ولغة، وأنه یحتل مرتبة أسمى من العقل.

كان أفلاطون[ر] أول من أعطى أهمیة للخیال فی الأدب، إذ رأى أن الشاعر الذی یستخدم الخیال مبدع یتمتع بوحی إلهی، وهو كالعاشق فی جنونه وجموحه، كما وصف أرسطو[ر] الخیال بأنه «العملیة التی تُتمثل عبرها الصور الذهنیة»، وأنه شكل من أشكال الذاكرة ومصدر للإلهام، وقد اتفق معظم الفلاسفة والكتاب الأفلاطونیین الجدد والنقاد والكتاب الاتباعیین إبان عصر النهضة على أهمیة الخیال فی الإبداع، لكنهم أكدوا على ضرورة إخضاعه للحكمة والعقل، لضبط عملیة الإبداع باستخدام المحاكاة والصور والرموز، بهدف التثقیف والإمتاع وخلق عالم أجمل من العالم الواقعی. فالخیال أساسی فی كل عملیات التفكیر، لذا فهو یعزز الإبداع، ولكن لیس له علاقة خاصة به، ولا یشكل أساساً للأدب، وإنما هو أحد وسـائل الإلـهام وأمر واقع فیه، بما أن الأدب نمط من أنماط الفكر. ورأى هوراسـیوس[ر] Horatius أن عملیة الإبداع الأدبی تبدأ باستخدام الخیال لاكتشاف الفكرة أو الموضوع، ثم وضع هذه الفكرة فی صیغة أو قالب أحد الأجناس الأدبیة المتداولة، واختیار اللغة والكلمات المناسبة للتعبیر عنها. وبهذا یكون الخیال لدى الاتباعیین الرومان جزءاً من عملیة التألیف والإبداع التی تأتی ضمن قوالب وأنساق جاهزة تضبط جموح أو انفلات هذا الخیال.

سادت هذه النظریات فی الخیال حتى العصور الوسطى وعصر النهضة فی أوربا القرن السادس عشر، حین بدأ النقاد یعرِّفون الخیال من حیث تضاده مع العقل، إذ عدوه أساساً لاكتساب التصور الشعری والإدراك المعرفی والدینی والروحانی. فمیز دانتی[ر] بین الخیال كوهم وبین الخیال السامی الذی رأى فیه مرادفاً للإبداع الفنی والشعری. ورأى شعراء عصر النهضة أن الشاعر یلاحظ بوساطة الخیال ما لا یشاهده الشخص العادی، فیخلق رموزاً جدیدة، لیصبح الأدب والفن أكثر من مجرد محاكاة أو إعادة ترتیب وتشكیل للعالم الخارجی. وقد عدَّ فرانسیس بیكون[ر] F.Bacon الخیال إحدى ملكات العقل الأساسیة الثلاث: الذاكرة والخیال والعقل، «فالتاریخ یرجع للذاكرة والشعر یرجع للخیال والفلسفة ترجع للعقل»، لكنه أكد أن هذه یجب أن توظف توظیفاً عملیاً ذرائعیاً یخدم الإنسان. واستخدم توماس مور[ر] «الخیال» فی وصف المدینة الفاضلة (الیوتوبیا).

وقد شدد الاتباعیون الجدد فی القرنین السابع عشر والثامن عشر، من أمثال راسین[ر] وكورنیّ [ر] ودرایدن[ر]، على كون الإبداع عملیة آلیة (میكانیكیة) تتبع نظاماً معیناً یسهم فیها الخیال ویضبطها العقل والحكمة. وقد أكد الفیلسوف الإنكلیزی هوبز[ر] T.Hobbes فی كتابه «لویاثان»Leviathan  ت (1651) أن الخیال والمخیلة شیء واحد یبدآن من الحواس ثم یتحولان إلى صور ذهنیة تسكن المخیلة، تتوالى وتتلاشى تارة وتتدفق تارة أخرى لتخلق تركیبات جدیدة، فیصبح الخیال والمخیلة واحداً مع الذاكرة، ومن هذه الصور یستحضر الكاتب موضوعاته الجدیدة. والخیال عند هوبز هو التجربة التی «تولد الذاكرة، والذاكرة تولد المحاكمة التی تعطی قوة وبنیة الشعر، والخیال یعطی الشعر تمیزه وزینته» لأنه یبیّن التشابهات بین الأشیاء، فی حین یستكشف العقل الفوارق. ووصف جوزیف أدیسون[ر] الخیال فی كتابه «مباهج الخیال» The Pleasures of the Imagination ت(1712) بأنه الملكة التی تستحضر الصور المرئیة كما تتلقاها الحواس وتعید ترتیبها، وأرجعه إلى العملیة التی تحدث وفقها محاكاة الواقع، إلا أنه لم یتفق مع هوبز بأن على الكاتب أن یستخدم خیاله بحكمة لیجد تشابهات بین الأشیاء، بل رأى أنه لابد للكاتب أن یضیف شیئاً من الإمتاع الأدبی بإیجاده تشابهات غیر مألوفة.

تأثر الشعراء الإبداعیون (الرومنسیون) فی أواخر القرن الثامن عشر وبدایة التاسع عشر، بفلسفة كَنت [ر] Kant، وفیشته[ر] Fichte وشِلینغ[ر] Schelling وهیغل[ر] Hegel. واتجه الإبداعیون فی أوربا ولاحقاً فی أمریكا إلى الخیال اللامحدود واللانهائی، وصار الخیال عندهم مساویاً للحكمة وقد یتفوق علیها لیصبح شكلاً من أشكال الوعی الإنسانی، فاستخدم بلیك[ر] ووردزورث[ر] مثلاً خیال الطفل، وأعطیا له أهمیة تفوق عقل البالغ، لبساطته وعمقه ونقائه. وتأثر الإبداعیون أیضاً بشكسبیر[ر] نموذجاً، واتبعوا منهج روسو[ر] فی الطبیعة، ونبذوا أی تقید بأحكام وقوالب أدبیة جاهزة. ویعد الشعر الإبداعی أهم حقل فی دراسة دور الخیال فی الأدب، ففی الخیال یكمن جوهر العمل الأدبی، إذ یخاطب الشعر ملكة الخیال عند الإنسان ولیس عقله، ویتفاوت فی القوة والخصب من شاعر إلى آخر. ویرى بلیك أن الخیال هو الحقیقة والأبدیة والدیمومة، فعالم الخیال لا نهائی یرى فیه الشاعر العالم فی حبة رمل، فی حین یرى وردزورث أنه من خلال الرؤى والخیال یستطیع الشاعر اكتشاف حقیقة الوجود التی تتجلى فی الإله. وقد یجمح الخیال عند بعض الشعراء لدرجة یصعب فهم شعرهم وماهیة الرموز التی یستخدمونها.

وتعد نظریات كولردج[ر] Coleridge من أهم النظریات فی الخیال لكونه شاعراً وناقداً، وقد جاءت نظریته التی تحدث عنها فی كتابه «سیرة أدبیة» Biographia Literaria ت(1817) تطویراً لفكرة الاتباعیین الجدد عن قدرة الشاعر على الربط والمقارنة ونقداً لها فی الوقت ذاته. فقد رأى أن نظریة الاتباعیین فی الخیال تشكل جزءاً من عملیة منظمة تجعل العقل البشری تابعاً سلبیاً لعملیات میكانیكیة تركیبیة تخلو من الإبداع، ورأى أن یكون عقل الشاعر فی نشاط دائم، وهو قادر على الخلق لیضیف للأدب بعداً خاصاً. ولهذا كان كولردج أول من فرق بین الخیال والمخیلة متأثراً بفلسفة شِلینغ وفیشته، فالخیال هو ملكة عضویة تخلق وتشكل وتصوغ، والمخیلة هی الشكل القدیم للتخیل الذی یعید استحضار صور من الذاكرة ویعید تركیبها وتشكیلها بطریقة جدیدة، وربما غیر معقولة، ولكن لیست خلاقة. وهی بهذا جزء من الذاكرة تستقی مادتها مما تشاهده ومن محاولة ربطه بعضه ببعض. وربط الصور والأفكار هو أحد وظائف الشعر، ولكنه لا یكفی للإبداع، فالخیال المبدع لا یكتفی بإعادة الترتیب وإنما ینصهر ویذوب ویتوحد تماماً فی عملیة الإبداع والأحاسیس والعاطفة والتأمل لیظهر حقیقة من حقائق الوجود ولیخلق واقعاً جدیداً، فهو برأی كولردج القوى الخلاقة التی تربط بین الإحساس والفكر لتعطی للفن والأدب تفوقاً وتمیزاً خاصین بهما. وبینما یحاول الخیال التوحد مع التجارب الحسیة لإعادة خلق حقیقة الوجود كما یجب أن یكون، تبقى المخیلة مجرد نمط للذاكرة متحرر من قیود الزمان والمكان لیركب تشكیلات جدیدة من أرشیف الذاكرة، ولذا تدخل المخیلة فی أعمال الفانتازیا ولیس فی الخیال الأدبی. وكما قالت الناقدة الفنیة لیزلی ستیفن فإن المخیلة تعالج التشابهات السطحیة، أما الخیال فإنه یتعامل مع عمق الحقیقة التی تحدد هذه التشابهات. ففی مسرحیة شكسبیر «الملك لیر» نجد أن الألم العمیق الذی یحس به الأب الملك یجعله ینشر هذا الإحساس العمیق بالعقوق ونكران الجمیل لیشمل عناصر الطبیعة كلها.

وهناك كثیر من الشعراء والروائیین ممن اهتموا بالخیال مثل وردزورث وكولردج وبلیك وبرنز وبایرون وساثی وكیتس وهیزلیت Hazlitt وشِلی Shelley فی إنكلترا، وهاینة وغوته وشیلر فی ألمانیا، وهوغو وموسیه وروسو وبودلیر فی فرنسا، وبوشكین فی روسیا، ولیوباردی Leopardi فی إیطالیا، ومیكییفیتش فی بولندا، وإدغار آلن بو وإمرسون فی أمریكا، والشعراء الأندلسیون والمتصوفون وكذلك الشعراء العرب الحدیثون الذین تأثروا بكولردج ووردزورث.

وكان للخیال أهمیة كبیرة فی الفكر الأندلسی، فقد عُرف الشعراء الأندلسیون من مثل ابن شهید[ر] وابن سهل[ر] وابن زیدون[ر] وابن خفاجة[ر] بشعرهم المتمیز ببراعة التصویر والاندماج فی الطبیعة ووصف مناظرها الخلابة من خلال اللغة والتصویر والتشخیص. وقد یندمج الخیال والمخیلة والفانتازیا لخلق عمل أدبی أو فنی، كما فی «رسالة الغفران» لأبی العلاء المعری[ر] التی حاول فیها ارتیاد عالم الغیب مطلقاً العنان للخیال واللغة وللعلاقات بین الأزمنة والأمكنة ولتذویب الفواصل بین الكائنات والجمادات، كما اكتسب الخیال عند الصوفیین أهمیة بالغة، فأصبح عند ابن عربی[ر] محوریاً فی إبداع النصوص التی تتطلب كتابتها برأیه تعطیل المنظومة الفكریة الذهنیة المنطقیة لیتسنى للخیال ممارسة دوره ووظیفته الأساسیة، ألا وهی «التحرش بالمحال».

اشتهر بعض أدباء المهجر مثل جبران خلیل جبران[ر] وإیلیا أبو ماضی[ر] باللجوء إلى الخیال لإنتاج رموز شعریة تزخر بالصور والمعانی، ولجأ آخرون إلى التجربة الباطنیة والمفاهیم الجمالیة والتحرر فی الأسلوب والانفعالات، ومالوا إلى التحدث عن خلجات النفس ومناجاة الطبیعة، واتسمت أعمالهم بطابع الذاتیة والفردیة والتأمل والغیبیة والتصوف والرجوع إلى الماضی والهرب من الواقع. وفی حین اكتفى البعض من الخیال باستخدام الصور المجازیة بقلیل من التعمق، فقد تجاوزه آخرون وصولاً إلى سبر أغوار العقل الباطن والتوجه نحو الغموض والإبهام والرمزیة المفرطة فی بعض الأحیان، ودمج الحلم بالیقظة والوعی باللاوعی، كما فعل أمین نخلة وجبران، الذی نقل القارئ بخیاله إلى جو النبوءة، وكذلك محمود درویش والصیرفی وبدر شاكر السیاب، الذی عبّر عن واقع مأسوی عاشته بلاده، بصورة تكاد تكون كشفاً عبقریاً عن واقعها المستقبلی أیضاً. ویضفی هذا التمازج بین الحقیقة والخیال على الشعر غنى فی قوة الرمز وبعداً فلسفیاً وملحمیاً وأسطوریاً. ولابد من التمییز بین الفن القصصی الذی یسعى إلى خلق عالم من المخلوقات الغریبة فی فضاء متحرر من قیود الزمان والمكان بهدف الإبهار والإمتاع والإثارة، كما فی الفانتازیا، وبین الفن القصصی الذی یخلق عالماً جدیداً، بقوة الخیال والمخیلة، بهدف البحث عن الحقیقة.

وفی حین انحسرت قیمة الخیال أمام قوى الواقعیة الصارمة والمادیة المتطرفة المعاصرة والتقدم التكنولوجی فقد انبرى كثیرون للدفاع عنه، ومنهم میخائیل نعیمة الذی نادى بإعادة الاعتبار إلى الخیال بوصفه برزخاً یصل بین القیم الروحیة المیتافیزیقیة التی هی أساس التجربة الشعریة وتلك التی تحكم الوجود المادی.

+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ فروردین ۱۳۸۹و ساعت 16:47|