انقراض اللغة العربیة خلال القَرن الحالی
الدكتور علی القاسمی
• فتوى جدیدة: العربیة لیست مقدّسة، ولم یضمن الله حفظها. • 3000 لغة تموت هذا القرن ومنها العربیة، طبقاً للیونسكو. • سیاسات الدول العربیة تحقّق نجاحاً باهراً فی القضاء على اللغة العربیة.
نظّم المجلس العربی للطفولة والتنمیة مؤتمراً عالمیاً حول " لغة الطفل العربی فی عصر العولمة" فی مقر جامعة الدول العربیة شارك فیه أكثر من 500 باحث ینتمون إلى 19 دولة عربیة وإلى عدد من الدول الأخرى. وهدف المؤتمر هو تدارس كیفیة تنمیة اللغة العربیة لدى أطفالنا لتكون وسیلة فاعلة فی اكتسابهم المعرفة، وتواصلهم مع تراثهم ومجتمعهم، وتعزیز هویتهم وانتمائهم، وبلورة الذات، ولتكون منطلقاً للتنمیة البشریة ولغة مشتركة للأقطار العربیة تساعد على تعاونها ووحدتها، كما أوضح الدكتور محمود كامل الناقة، عضو اللجنة العلمیة للمؤتمر.
بَید أنّ البحوث التی قدّمها، إلى هذا المؤتمر، كبارُ العلماء فی اللسانیات، والتربیة، وعلم الاجتماع، والطب النفسی، ، كانت بمثابة رثائیات رائعة للغة العربیة، وبكائیات بلیغة ذُرِفت على موتها المؤكَّد القریب.
وإذا كان بعض القرّاء الكرام (إذا كان هناك مَن یقرأ هذا المقال) یرى فی ما سأنقله عن المؤتمر شیئاً من الكُفر أو ما یُشبه الكُفر، فإن " ناقل الكُفر لیس بكافر"، كما یقول المثل.
العربیة لیست مقدّسة ولم یضمن اللهُ حفظها:
یشعر كثیر منا ـ نحن المسلمین ـ بأن اللغة العربیة التی یبلغ عمرها ألفی عام تقریباً والتی أنزل الله القرآن بها، هی لغة مقدّسة ولا یمكن أن تنقرض كبقیة اللغات. ویستدلّ هؤلاء المتفائلون على بقاء اللغة العربیة بقوله تعالى فی سورة الحِجر: ﴿ إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون﴾.
ولكن المفاجأة الصارخة هی أن هذا المؤتمر أفتى بعدم قدسیة اللغة العربیة. وقد وردت هذه الفتوى فی البحث القیم الذی قّدمه فی الجلسة الأولى للمؤتمر فضیلة مفتی الدیار المصریة الشیخ الدكتور علی جمعة، الذی أوضح أن القرآن الكریم لا یشتمل على جمیع اللغة العربیة من جذورٍ وتراكیبَ ومعانٍ، وإنما على نسبة ضئیلة منها (أقل من 30% من الجذور العربیة، مثلاً) وأن تلك النسبة الصغیرة فی سیاقاتها ودلالاتها المحددة هی التی تستمد قدسیتها من القرآن الكریم، وأمّا غالبیة اللغة العربیة، فلیست مقدّسة، ولهذا فهی عرضة للتغییر ، وطبعاً للانقراض كذلك.
وتكرّم اللغوی السعودی الدكتور أحمد محمد الضبیب (مدیر جامعة الریاض سابقاً وعضو مجلس الشورى السعودی والمجامع العربیة فی بغداد ودمشق والرباط والقاهرة حالیاً، ومن المؤمنین بضرورة تعریب التعلیم العالی ولكنه لم یتمكن من تعریب التعلیم فی الجامعة أثناء تولیه إدارتها) ـ تكرّم هذا الأستاذ الفاضل بتفسیر الآیة التی أوردناها سابقاً ﴿ إنّا نحن نزّلنا الذكرَ وإنّا له لحافظون﴾، فأوضح أن الله سبحانه وتعالى لم یتعهّد بحفظ اللغة العربیة أو ضمان بقائها، وإنما ضمن حفظ " الذِّكر" (وهو القرآن الكریم). ولهذا فإن اللغة العربیة یمكن أن تنقرض ویبقى الذِّكر الحكیم بشریعته. وضرب مثلاً لذلك بانقراض اللغة العربیة فی إیران بعد أن كانت لغة البلاد الرسمیة والثقافة فیها، وبقی القرآن الكریم فی تلك البلاد. والمثل ینطبق على إسبانیا كذلك، فقد انقرضت اللغة العربیة هناك وبقی ثمة مسلمون یهتدون بالقرآن.
اللغات تضعف وتموت كما یموت البشر:
یقول علماء اللسانیات إنه یوجد فی الوقت الحاضر ما بین 5000 و6000 لغة (طبقاً لنوعیة التصنیف واحتساب اللهجات أو عدمه). وتشیر الإحصائیات العلمیة أن ما بین 250 و 300 لغة تنقرض سنویاً بفعل سرعة التواصل والمیل إلى استعمال اللغات العالمیة الأكثر فاعلیة. وهذا ما یسمیه بعضهم بالغزو الثقافی أو اللغوی. وبعملیة حسابیة بسیطة، یتبیّن لنا أن القرن المیلادی الحالی سیشهد اندثار حوالی ثلاثة آلاف لغة، أی نصف لغات العالم.
وقد أكدت منظمة الیونسكو ذلك فقد " أسفر أحد تقاریر الیونسكو الأخیرة عن أنّ عدداً من لغات العالم مهدّدة بالانقراض، ومن بینها اللغة العربیة"، كما ورد فی مداخلة اللغوی المصری الدكتور رشدی طعیمة، المعروف بتدیّنه ودماثة خلقه. ولكی یُعزز الدكتور طعیمة أقواله ویضفی علیها المصداقیة، أشهر فی وجه المؤتمرین كتاباً ألّفه اللسانی البریطانی دیفید كریستال بعنوان " موت اللغة "
(David Crystal, The Death of Language) صدر عن مطبعة جامعة كمبرج. ویعدّد هذا الكتاب تسعة شروط لموت اللغة. وجمیع هذه الشروط تنطبق على اللغة العربیة فی وضعها الراهن، وفی مقدمتها شرط انتشار لغة الغالب فی بلاد المغلوب وحلولها محلّ لغته التی هی من مقوِّمات الأُمّة. وهذا مبدأ معروف فی علم الاجتماع أرساه المرحوم ابن خلدون فی "المقدِّمة" بقوله: إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب فی شعاره وزیّه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده ... إن الأمّة إذا غُلِبت وصارت فی ملك غیرها، أسرع إلیها الفناء."
لعنة الازدواجیة اللغویة: تعنی الازدواجیة اللغویة وجود مستویَین للغة الواحدة: أحداهما مستوى اللغة الفصیحة أو المشتركة الذی یُستخدَم فی المناسبات الرسمیة والكتابة والأدب والتعلیم والإدارة، والآخر مستوى اللغة العامیة أو اللهجات الدارجة الذی یُستعمل فی الحیاة الیومیة وفی المحادثات فی المنزل والشارع. وكان أوّل من بحث هذه الظاهرة اللغویة فی العصر الحدیث اللغوی الأمریكی تشارلز فرغیسون Charles Ferguson ونشر بحثه عنها عام 1959 فی مجلة " اللغة " الأمریكیة "Language". وأكد هذا اللغوی أن الازدواجیة ظاهرة موجودة فی جمیع اللغات الكبرى. فالانجلیزیة فی بریطانیا، مثلاً، لها لهجات متعددة فی ویلز واستكلندة وإیرلندة الشمالیة وحتى لهجة الكوكنی فی لندن، إضافة إلى لهجات الإنجلیزیة خارج بریطانیا كاللهجة الكندیة والأمریكیة والاسترالیة والنیوزلندیة والجنوب أفریقیة إلخ. وكذلك الحال بالنسبة للغات الفرنسیة والألمانیة والإسبانیة وغیرهما.
ولكن اللغویین لا یتوقعون أن تحلّ لهجات اللغات الإنجلیزیة والألمانیة والفرنسیة والإسبانیة محلّ هذه اللغات فی حین یتوقعون أن تحلّ، فی المستقبل القریب، اللهجاتُ المصریة والعراقیة والمغربیة إلخ. محلَ اللغة العربیة الفصیحة التی ستنقرض كما انقرضت اللغة اللاتینیة فی أوربا واستُعیض عنها بلهجاتها الإیطالیة والفرنسیة والإسبانیة والبرتغالیة إلخ. التی صارت لغات مستقلّة.
ونسأل لنتعلّم: وما هو الفرق بین الازدواجیة فی اللغة العربیة والازدواجیة فی بقیة اللغات العالمیة؟ فیأتینا الجواب من العارفین بالقول: إن الفرق هو فی الكم ولیس فی الكیف، بمعنى أن الفارق بین اللهجات الإنجلیزیة وبین اللغة الإنجلیزیة الفصیحة، مثلاً، هو فارق ضئیل جداً لا یحول دون الفهم، على حین أن الفارق بین اللغة العربیة الفصحى ولهجاتها فارق كبیر جداً. ونسأل لنستفید: وكیف أصبح الفارق بین تلك اللغات العالمیة ولهجاتها ضئیلاً؟ یجیب العارفون بأن الدول الغربیة اتبعت ـ وتتبع دائماً ـ سیاسات لغویة تفرض استخدام اللغة الفصیحة المشتركة فی التعلیم والإعلام والإدارة والتجارة وجمیع مجالات الحیاة، فیعتاد المواطنون على سماعها وقراءتها فیتمكنون منها وتقترب لغتهم الدارجة من اللغة الفصیحة. وفی فرنسا، مثلاً، یوجد فانون یعاقب مَن یُخطئ باللغة الفرنسیة فی الإذاعة أو التلفزة أو المدرسة، لأنه یُفسد لغة الأطفال وغیرهم.
وقد ذكر كثیر من الباحثین فی المؤتمر أن السیاسات اللغویة للدول العربیة تمیل إلى تفضیل اللهجات العامیة واللغات الأجنبیة فی مجالات الحیاة المختلفة كالإعلام والتعلیم، وتشجّع العامیّة فی الإذاعة والتلفزة ولا تمنعها أو تقلل منها. (وكاتب هذا المقال یرى أنه لا توجد سیاسات لغویة مُعلَنة فی الأقطار العربیة، ما عدا ما ورد فی دساتیرها من أن العربیة هی اللغة الرسمیة للبلاد، ولكن لیس ثمة قوانین أو أنظمة لتفعیل ذلك). ویرى أولئك الباحثون أن هذه السیاسات اللغویة للدول العربیة تجعل لغة الكتاب العربیة الفصیحة لغة غریبة نادرة الاستعمال یصعب استیعابها فلا یُقبل المواطنون على القراءة. وأدى ذلك، إضافة إلى أسباب أخرى كانتشار الأمیة، إلى انخفاض نسبة القراءة وانحسار المعرفة فی المجتمعات العربیة. إذ تشیر الإحصائیات إلى أن معدّل القراءة فی إسرائیل هو 40 كتاباً للفرد الواحد (طبعاً باللغة العبریة، وهی لغة میّتة تحییها دولة إسرائیل)، وفی معظم الدول الغربیة 35 كتاباً للفرد، وفی السنغال 4 كتب للفرد، وفی بلادنا كتاب واحد لكل 80 فرداً (طبعاً باللغة العربیة، وهی لغة حیّة تُمیتها الدول العربیة)، كما ورد فی بحث الدكتور عبد الله الدنان من سوریا.
لعنة الثنائیة اللغویة:
تعنی الثنائیة اللغویة توافر لغتین فی البلاد الواحدة، أو تحدُّث الفرد بلغتین مختلفتین، هما، بوجه عام، اللغة القومیة ولغة أجنبیة، أو اللغة القومیة ولغة وطنیة أخرى. ویتفق هذا المؤتمر على أن تعلّم اللغات الأجنبیة ضرورة یستدعیها الانفتاح على الثقافات الأخرى أخذاً وعطاء والتعاون معها فی سبیل خیر الإنسانیة. ولكن المؤتمر یؤكّد، من ناحیة أخرى، أن إیجاد مجتمع المعرفة اللازم لتحقیق التنمیة البشریة لا یمكن أن یتم إلا باكتساب المعارف والعلوم باللغة القومیة التی تساعد على تعمیم المعرفة العلمیة والتقنیة على نطاق واسع. فاللغة هی وعاء الفكر وهی الحاضنة له بدرجاته المتنوعة وصولاً إلى الإبداع، وهی وسیلة التواصل بین أفراد المجتمع ومؤسساته المختلفة وتبادل المعلومات والأفكار بینها. فهی كالعُملة فی التبادل التجاری. وكلّما كانت العملة قویة وموحدة فی البلاد، أصبح التبادل التجاری أیسر وأكثر نشاطاً.
وقد قُدّمت بحوث فی المؤتمر عن تجارب بلدان بلغت شأواً رفیعاً من التقدم والرقی بفضل نشر المعرفة بلغتها القومیة. فقد ذُكِر أن الیابان استسلمت فی الحرب العالمیة الثانیة تحت وطأة القنابل الذریّة الأمریكیة، ففرض الأمریكیون شروطهم المجحفة على الیابان المستسلمة، مثل تغییر الدستور، حلّ الجیش، نزع السلاح، إلخ. وقد قبلت الیابان جمیع تلك الشروط باستثناء شرط واحد هو التخلی عن لغتها القومیة فی التعلیم، فكانت اللغة الیابانیة منطلق نهضتها العلمیة والصناعیة الجدیدة.
وقدم الدكتور یوسف عبد الفتاح، الاستاذ بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبیة فی كوریا الجنوبیة دراسة عن كیفیة اعتماد اللغة الكوریة أساساً للتنمیة البشریة (للتذكیر: تحتل كوریا الرتبة 26 فی تقریر التنمیة البشریة 2006 للأمم المتحدة، وللمقارنة فإن ألمانیا تحتل الرتبة 21، ومعظم الدول العربیة تحتل بجدارة الرتب ما بعد 120). وأشار الباحث إلى أن التعلیم، فی مختلف مراحله ومتنوّع تخصّصاته، یتم باللغة الكوریة الفصیحة، مع العلم أن اللغة الكوریة كانت قد مُنعت فی المدارس الكوریة وحلّت محلها الیابانیة أثناء الاحتلال الیابانی لكوریا الذی انتهى فی الحرب العالمیة الثانیة. وتوجد فی كوریا حالیاً 110 قنوات تلفزیونیة كلّها خاصة إلا قناة حكومیة واحدة، " وجمیعها تبثّ باللغة الكوریة الفصحى السلیمة " (طبقاً للسیاسة اللغویة للدولة وتحت مراقبتها). ومن الطرائف التی ذكرها الباحث أنه عند وصوله أوّل مرّة إلى كوریا لم یعرف طریقه، لأن جمیع اللافتات وأسماء المحلات بالكوریة فقط والنادر منها، كلافتات السفارات والفنادق الكبرى، یضیف الاسم بالحروف الأجنبیة الصغیرة تحت الحروف الكوریة الكبیرة. وعندما سأل زمیلاً له عن ذلك، أجابه فائلاً: إذا أردت أن تقرأ الأسماء بالإنجلیزیة فارحل إلى إنجلترا. وعندما ذهب إلى عیادة طبیب كان علیه أن یصطحب مترجماً. وسأل الأستاذُ المترجمَ: لماذا لا یتحدث الطبیب اللغة الإنجلیزیة؟ قال المترجم: وماذا سأفعل أنا؟
إن الثنائیة اللغویة فی بلداننا تشكّل صراعاً غیر متكافئ بین لغة قومیة تلقى من أهلها أصناف الاحتقار والإهمال والتهمیش، بل والتدمیر، وبین لغة عالمیة وافدة " بكل سطوتها الثقافیة وسلطتها الاقتصادیة وهیمنتها الدولیة، كما قال الشاعر المغربی الدكتور مصطفى الشلیح فی المؤتمر، فتلقى هذه اللغة الأجنبیة الترحیب والتعظیم فی بلداننا، وثمة " عوامل أخرى تشجّع على بسط نفوذ هذه اللغة (الوافدة)، تتهیأ بإرادة جهات مسئولة فی مجتمعنا العربی" كما قال اللغوی السعودی الدكتور أحمد محمد المعتوق.
وأدانت معظمُ بحوث المؤتمر الوضعَ اللغوی فی بلداننا، فأشارت إلى أن أبناء النخبة یتعلّمون فی مدارس أجنبیة أو مدارس خاصة، ذات مناهج أمریكیة أو بریطانیة أو فرنسیة أو إسبانیة أو إیطالیة، إلخ، وهی إن علّمت اللغة العربیة فلا تخصّص لها أكثر من ساعتین فی الأسبوع، ما ینتج عنه تفاوت ثقافی طبقی یهدّد السلم الاجتماعی. ومن ناحیة أخرى فإن العلوم والتقنیات فی الجامعات والمعاهد العلیا تُدرَّس باللغة الأجنبیة، الإنجلیزیة فی بلدان المشرق والفرنسیة فی البلدان المغاربیة. وأبناؤنا لا یجیدون اللغة العربیة ولا اللغة الأجنبیة. وإذا كانت اللغة وعاء الفكر، فإن الطالب العربی لا یحمل وعاءً سلیماً بل ینوء تحت عدد من الأوعیة المثقوبة التی لا تحتفظ بالمعارف والعلوم، ناهیك بعدم تمكّنه من تمثّل تلك المعارف والعلوم أو الإبداع فیها.
ولقد ذكر باحث مصری أن إحدى ریاض الأطفال الأجنبیة أضافت اللغة العربیة إلى منهجها، فاحتجّ أولیاء الأمور لدى مدیرها قائلین إنهم أرسلوا أولادهم إلیه لیعلّمهم الإنجلیزیة ولیس العربیة. وتشكّت أستاذة جامعیة من إحدى الدول المغاربیة تشارك فی المؤتمر من أن ابنتها التی تبلغ الخامسة من العمر وتتعلّم العربیة والفرنسیة فی روض الأطفال ، ترفض مراجعة دروس اللغة العربیة معها وتقول لها بالفرنسیة: " ماما، أنا أكره العربیة، لنقرأ الفرنسیة." وقال مشارك آخر فی المؤتمر من إحدى الدول المشرقیة إن أبناءه الذین یتعلّمون فی مدرسة أجنبیة لا یفهمون العربیة وهو مضطر إلى التحدث معهم فی منزله باللغة الإنجلیزیة. وصرّح أحد المشاركین من دولة خلیجیة أنه عند عودته إلى منزله فی المساء لا یفهم أطفاله الصغار فهم یتحدّثون بإحدى اللهجات الهندیة، لأن المربّیة هندیة والخادمة هندیة والسائق هندی، والإنجلیزیة الهندیة هی السائدة فی الأسواق والفنادق والمطاعم والمطارات وجلّ الأمكنة فی البلاد. وأحیانا یضطر إلى استقدام مربیّة سیرلانكیة بدل الهندیة، فتتبلبل لغة أطفاله.
وبیّن الدكتور أحمد عكاشة، رئیس الجمعیة الدولیة للطب النفسی، فی مداخلته فی المؤتمر أن التعدد اللغوی فی الطفولة قد یسبب اضطرابات نطقیة ونفسیة وعقلیة. وأن الأطفال العرب الذین یتلقّون تعلیمهم فی مدارس أجنبیة أو بمناهج أجنبیة یمیلون إلى الشعور بالنقص واحتقار الأهل والشعور بالاغتراب الثقافی فی بلدانهم، وأن هذا النوع من الاغتراب هو من أهم أسباب هجرة الأدمغة من بلداننا إلى الغرب.
مؤشّرات دولیة إلى انقراض اللغة العربیة:
كنا قد ذكرنا فی مقال سابق عنوانه " العربیة لم تعُدْ لغة عالمیة" أن منظمة الأمم المتحدة فی نیویورك تتجه إلى إلغاء العربیة من بین اللغات العالمیة الرسمیة فی المنظمة وهی: الإنجلیزیة، الإسبانیة، الفرنسیة، الروسیة، الصینیة، العربیة؛ وذلك لثلاثة أسباب: 1) عدم استعمال ممثلی الدول "العربیة" اللغة العربیة فی الأمم المتحدة، فهم یستعملون الإنجلیزیة أو الفرنسیة.
2) عدم وجود مترجمین عرب أكفاء یجیدون اللغة العربیة.
3) عدم وفاء معظم الدول العربیة بالتزاماتها المتعلّقة بدفع نفقات استعمال العربیة فی المنظمة.
وفی هذا المؤتمر، أوضح المفكّر التونسی الدكتور عبد السلام المسدّی ( سفیر تونس ووزیر التعلیم العالی والبحث العلمی سابقاً، ومن المؤمنین بضرورة تعریب التعلیم العالی، لكنه لم یتمكّن من تعریب التعلیم العالی أثناء تولیه الوزارة) أن ضغوط الدول الكبرى على الیونسكو جعلتها تُعلن مؤخّراً أن الحقوق اللغویة تنحصر فی ثلاثة: ـ الحق فی لغة الأم (ولیس اللغة الأم) ـ الحق فی لغة التواصل فی المجتمع ـ الحق فی لغة المعرفة.
وتعنی هذه الحقوق بالنسبة إلى بلداننا ما یأتی:
ـ لغة الأم: اللهجة العامیة أو إحدى اللغات الوطنیة غیر العربیة مثل الدنكا فی السودان، والسریانیة فی سوریا، والأمازیغیة فی الجزائر والمغرب.
ـ لغة التواصل: اللهجة العربیة الدارجة
ـ لغة المعرفة العالمیة: الإنجلیزیة (أو الفرنسیة فی بعض البلدان)
وهكذا، فالعربیة الفصیحة المشتركة بین بلداننا لا مكان لها هنا بتاتاً ولا تشكّل حقاً لغویاً لأی فرد. وسیكون إعلان الیونسكو هذا ورقة ضغط إضافیة بید الدول الكبرى التی تسعى إلى إلغاء أیة وسیلة تفاهم مشتركة بین بلداننا قد تشكّل أساساً لاتحاد عربی من أی نوع، طبقاً لبعض المشاركین فی المؤتمر (أما نحن فلا نرى ضرورة وجود لغة مشتركة لقیام اتحاد بین الدول، فقد یقوم على أسس غیر لغویة، كما هو الحال فی الاتحاد الأوربی الذی یستخدم برلمانه فی ستراسبورغ 9 لغات أوربیة وتستنفد نفقات الترجمة حوالی 5% من میزانیة الاتحاد). ومن ناحیة أخرى، فقد اتُخِذ عدد من الإجراءات العملیة مثل إلغاء تدریس اللغة العربیة فی بعض الجامعات الأمریكیة والاستعاضة عنها باللهجات العربیة مثل الشامیة والمصریة والمغربیة والعراقیة، إلخ. وكان امتحان البكالوریا الثانویة فی فرنسا یسمح للطالب باختیار لغة ثانیة كالإنجلیزیة والألمانیة والإسبانیة والعربیة. وابتداءً من سنة 1995، لم تعد العربیة من بین هذه اللغات واستُعیض عنها بعدد من اللهجات العربیة. وظل عرب 48 فی إسرائیل، من مسیحیین ومسلمین، یحرصون على تعلیم العربیة فی مدارسهم لتكون وسیلة للتعبیر عن هویتهم وانتمائهم لشعبهم الفلسطینی العربی، ولكن إسرائیل اتّبعت سیاسات إهمال اللغة العربیة وتهمیشها فی الحیز المدرسی وتهجینها بالمصطلحات والتعبیرات العبریة والإنجلیزیة، كما أوضحت الباحثة الأستاذة جنان عبده المشاركة فی المؤتمر من حیفا.
انقراض الحضارة أم انقراض اللغة؟
بعد أن سعدتُ بالعودة من المؤتمر إلى مقر إقامتی فی شاطئ الهرهورة فی المغرب، خرجتُ صباح الیوم التالی لأتمشّى مع جاری المفكّر الدكتور عبد الكبیر الخطیبی. اغتنمتُ الفرصة لأستطلع رأیه فی الموضوع، فسألته: هل ترى أن اللغة العربیة ستنقرض؟ أجابنی: هذا خطأ؛ مَن قال بذلك؟ ثم واصل كلامه قائلاً: إن الحضارة العربیة الإسلامیة برمّتها تسیر حثیثاً نحو هاویة الاندثار، بكل ما فیها من طرائق التفكیر والتعبیر. وقد ناقش هذا الموضوع جماعة من الزملاء التقوا فی منزلی، الأسبوع الماضی، بمناسبة زیارة الشاعر أدونیس لمعرض الكتاب فی الدار البیضاء، وقد أجمعوا على ذلك الرأی.
وعندما بدت أمارات الخیبة على وجهی، استخدم الدكتور الخطیبی، التشبیة والاستعارة، ربما لیساعدنی على الفهم، فقال: أنا أقول لك إن الرجل میّت، وأنتَ تقول لی إن لسانه لا یتحرّك.
خاتمة:
حاولتُ أن أنقل ما دار فی المؤتمر، بأمانة ولكن بإیجاز شدید؛ وأن لا أبدی وجهة نظری إلا لماما، لكی أترك للقارئ الكریم تكوین الرأی فی الوضع اللغوی، ونتائجه، وما الذی ینبغی فعله.
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در چهارشنبه ۱۱ آذر ۱۳۹۴و ساعت 11:27|