قحطان بیرقدار
نتابع فی هذا المقال الحدیث عن خصائص المذهب الواقعی فی الغرب، وكنا قد تحدثنا فی المقال السابق عن خصائص الواقعیة الأم، أما فی هذا المقال فسنتناول خصائص ما تفرع من الواقعیة الأصلیة أی خصائص كُلٍّ من الواقعیة الطبیعیة والواقعیة الاشتراكیة.
ثانیاً/ الواقعیّة الطبیعیّة:
نشأت الواقعیة الطبیعیة فی نهایة القرن التاسع عشر على ید (إیمیل زولا)، ولم تحدد ملامحها إلا فی القرن العشرین، وهی فرع للواقعیة الأم، وتسمى أیضاً بالمذهب الطبیعی، وقد تأثرت الواقعیة الطبیعیة بالنظریات العلمیة ودعت إلى تطبیقها فی مجال العمل الأدبی، والإنسان فی نظرها كائن تسیره غرائزه، وكل شیء فیه یمكن تحلیله، فحیاته الشعوریة والفكریة والجسمیة ترجع إلى إفرازات غددیة.
ویمكن إجمال خصائص الواقعیة الطبیعیة الغربیة بالنقاط التالیة:
1- تصور العالم من الوجهة العقلانیة المادیّة فقط، والابتعاد التامّ عن المثالیّة، والإخلاص الكامل للعلم الطبیعی والفلسفة المادیّة والوضعیّة، ولم تكتف الواقعیة الطبیعیة بذلك، بل أخذت تهاجم الأدیانَ وتسخر منها، فالدین عندها معوّق للتقدم، وقد أضاف (زولا) إلى هذا الفرویدیةَ فی التحلیل النفسی؛ كعقدة أودیب وعقدة إلیكترا، وكون الجنس المحرك العمیق للسلوك، كما أضاف تأثیر البیئة والوراثة فی تكوین السلوك والطباع، فبدت روایاته ردیفة للعمل التجریبی الذی تطوّر على ید (داروین)، و(كلود برنار)، و(فروید) وغیرهم.
2- تبتعد الواقعیة الطبیعیة عن الحیاد، فالموقف صریح وواضح إلى جانب التقدم البورجوازی والدیموقراطیة ومحاربة الفساد والظلم والانهیار الأخلاقی.
3- المبالغة فی التعبیر عن الواقع الطبیعی إلى درجة الاهتمام بالأمور القبیحة والوضیعة، والألفاظ البذیئة بدعوى أنّ ذلك من تصویر الواقع الحقیقی تصویراً علمیاً أمیناً، فلا مبرر للمواربة والتنمیق.
4- التفاؤل بانتصار العلم والحب وسیادة الحریة والعدل والمساواة، ولا تنفی هذا الاتجاه بعض الاستثناءات؛ ففی الوقت الذی وُجِدَ فیه كُتَّابٌ مسرحیون متفائلون مثل (سكریب) و(ساردو)، كان هناك كُتَّابٌ متشائمون مثل الكاتب المسرحی الطبیعی (هنری بیكّ) فی مسرحیتیه (الغربان والباریسیة)، وقد ظهرت فی هذا الاتجاه اللامبالی المتشائم الكومیدیا الطبیعیة وما سمیّ بالمسرح الحرّ الذی بالغ فی التشاؤم واستخدام اللغة المكشوفة البذیئة والعامیّة حتى أصبح ممجوجاً، وسرعان ما انسحب أمام المسرح الواقعی المتفائل.
5- تنظر الواقعیة الطبیعیة إلى المجتمع فی إطار الوحدة الكلیة المتماسكة، أی كالجسد الواحد، یتضامن أعضاؤه جمیعاً فی مسؤولیتهم إصلاحاً وفساداً.
ثالثاً/ الواقعیة الاشتراكیة (الواقعیة الجدیدة):
نشأت الواقعیة الاشتراكیة رداً على الرومانسیة، والواقعیة النقدیة المتشائمة، والواقعیة الطبیعیة السطحیّة، وانتشرت مع اتساع الدراسات الاشتراكیة؛ ولما كانت الاشتراكیة نظرةً فلسفیةً واجتماعیة تشمل كل فروع المعرفة والحیاة فقد اهتمت بالأدب الواقعی ووجهته وجهةً خاصّةً تناسبها، ووجدت فیه خیر مصوّر للواقع وحافز إلى التغییر نحو التقدُّم، ومن هنا نشأت الواقعیة الاشتراكیة فی الأدب وأصبحت مدرسةً عالمیة لها منهجها العقائدی، وقد تبلورت معالمها فی الثلاثینیات من القرن العشرین.
ویمكن إجمال خصائص الواقعیة الاشتراكیة الغربیة بالنقاط التالیة:
1- ینطلق الفهم العمیق للمجتمع من التحلیل الماركسی للصراع الطبقی والوصول إلى كنه التناقضات الجدلیة فی هذا الصراع الذی یقوم على التأثیر والتأثر والناتج.
2- الواقعیة الاشتراكیة متفائلة، تؤمن بانتصار الإرادة الجماهیریة التی تتجه دوماً فی طریق الحق والخیر وتتمكن من إعادة بناء المجتمع الجدید.
3- تنطلق الواقعیة الاشتراكیة من الواقع المادی من خلال فهمٍ عمیقٍ لبنیة المجتمع والعوامل الفعالة فیه والصراعات التی ستفضی إلى التغییر.
4- عدم الاكتفاء بالتصویر بل لابد من شفعه بالتحلیل واستخلاص العوامل الفعالة فی صیاغة المستقبل التقدمی، وهنا تبرز رسالة الكاتب وإعلاء شأن الإرادة الإنسانیة ونضالها العنید ضمن الإطار الجماعی الطبقی لصنع المصیر وفق المنطق التاریخی.
5- الأدیب طلیعةُ مجتمعه بما أوتی من وعی ومؤهلاتٍ فكریة وفنیة وقیادیة تمكنه من التأثیر فی الأفكار والقناعات، وله رسالة جوهریة إیجابیة وهی الاتجاه مع المجتمع لبناء مستقبلٍ أفضل.
6- لا تهملُ الواقعیة الاشتراكیة المقومات الفنیّة كالمقدرة اللغویة والأسلوبیة وبراعة التصویر الطبیعی والنفسی وحرارة العاطفة، وهی تتجه إلى الجماهیر فی خطابها ولذلك تختار اللغة السهلة المتداولة، ولا تقیم وزناً لأدب یؤدی الأهداف دون حسٍّ مرهفٍ وأداءٍ فنّی، فالمضمون والشكل متكاملان.
7- تولی الواقعیة الاشتراكیة أهمیة كبرى لرسم وإبراز ما یسمى (النموذج البطولی) فی إطار التلاحم النضالی مع الجماهیر والتصمیم الإرادی والوعی والتضحیة.
وترى الواقعیة الاشتراكیة أن على العمل الأدبی أن یهتم بتصویر الصراع الطبقی بین طبقة العمال والفلاحین وطبقة الرأسمالیة والبرجوازیین، وانتصار الأولى التی تحمل الخیر والإبداع على الثانیة التی هی مصدر الشرور فی الحیاة، ومن الواضح أن الواقعیة الاشتراكیة ترفض أی تصورات غیبیة، وخاصة ما یتعلق منها بالعقائد السماویة، وهی تستغل الفنون الأدبیة لنشر الماركسیة، كما كان من أعلامها (روجیه جارودی)، وهو مفكر فرنسی رام الدخول فی الإسلام وسمى نفسه (رجاء جارودی) وإن كان لا یزال یتأرجح بین ماضیه وحاضره.
وقد ازدهرت الواقعیة الاشتراكیة فی روسیا خلال القرن التاسع عشر ومهدت للثورة، وازدادت قوةً وانتشاراً بعد انتصار ثورة1917م، وانتقلت إلى البلدان الاشتراكیة الأخرى فی القرن العشرین، وكان من أوائل منظریها (بلنسكی) المتوفى عام1848م وهو مؤسس علم الجمال الواقعی ومن الاشتراكیین الخیالیین، ومن أعلامها أیضاً (تشرنشفكی) المتوفى عام1889م والذی نُفِیَ إلى سیبریا بسبب أفكاره، وهو أحد الداعین إلى ثورة الفلاحین والنضال فی وجه السلطة التقلیدیة، والدفاع عن الطبقات المسحوقة، وله رسالةٌ فی (علم الجمال) تُعَدُّ أساساً لعلم الجمال الواقعیّ، انتقد فیها نظریة الفن للفنّ، واعتبر الحیاة الواقعیة نفسها مقیاساً للجمال ومعیاراً للصدق والإخلاص والعمق.