قراءة نقدیة تحلیلیة فی نماذج من شعر بعض الشعراء ذوی الاتجاه الإسلامی فی المرحلة المتأخرة من العقود الثلاثة الأخیرة ومدَیات تجربة هؤلاء الشعراء فی التعامل مع الشخصیة الحسینیة تعاملاً رمزیًا، وتوظیفها للحدث الحسینی بمستویات مختلفة، على أنها لم تبلغ بالشخصیة الحسینیة درجة القناع أو النموذج الذی یعبر فیه من خلال القصیدة كاملاً، لینسحب الشاعر بلغته الذاتیة وأناه ویترك الشخصیة القناع تتحدث بموضوعیة رغم ما استخدمه من أدوات تبرز مرة وتخفى أخرى.
لیس فی النّیة الحدیث عن الإمام الحسین علیه السلام وشخصیته وأبعاد ثورته فی الشعر العربی الحدیث، فهو موضوع أبعد من أن تفی به صفحات بحث قصیر([1])، كما إنّه لیس فی النیة الحدیث عن الإمام فی مراحل الشعر فی العصر الحدیث فی إحیائیة ورومانسیة وشعر تفعیلة لدى الشعراء العرب أو العراقیین خاصة، بل سیكون الحدیث مخصصًا فی نقطتین اثنتین:
أولاً: لدى الشعراء ذوی الاتجاه الإسلامی فی المرحلة المتأخرة من العقود الثلاثة الأخیرة وهی مرحلة الوعی الإسلامی الخاص والصحوة الإسلامیة المتوقدة التی حمل فیها الشاعر الإسلامی الملتزم العقیدة الإسلامیة مبدأ ونظامًا وحلّا حضاریًا شاملاً، وراح یبشّر به ویعمل له، ویضحّی من أجله.
ثانیًا: والحدیث سیكون عند جانب واحد من تجربة هؤلاء الشعراء وهو التعامل مع الشخصیة الحسینیة تعاملاً رمزیًا.
وقبل الحدیث عن طریقة تعامل الشعراء الشباب الإسلامیین مع الشخصیة الحسینیة رمزّیًا، لا بد من التعرف على طرق الشعراء الذین سبقوهم فی التعامل مع هذه الشخصیة.
التعبیر عن الشخصیة:
ویتم بهذه الطریقة سرد أحداث الشخصیة ونظمها نظمًا تقریریًا([2]). فالشخصیة الحسینیة موصوفة وُمتحَّدث عنها وعن أحداث المعركة التی خاضتها وعن الأبطال الذین شاركوا فیها، وعن الضحایا والنساء والأطفال الذین شهدوها. وقد كان هذا الطابع العام للشعر الحسینی الذی كتب فی القرن الماضی بل فی كثیر من الشعر الذی كتب فی النصف الأول من هذا القرن. وهو شعر، فی الغالب منه، لا تجد فیه توظیفًا للحدث الحسینی لعلاج مشكلات العصر ومظالم العصر، إلا بطریقة یستوحیها القارئ استیحاءً تجد هذا مثلاً فی ملحمة الشیخ عبد المنعم الفرطوسی التی بلغت خمسًا وعشرین ألف بیت، فهی على عظم الجهد الذی بذله الشاعر لا تتعدّى كونها تاریخًا منظومًا للأحداث التی مرّ بها أهل البیت علیهم السلام ومواقفهم فی هذه الأحداث، ویهمنا من هذه الملحمة الجزء الثالث الذی وقف فی جانبٍ منه عند الإمام الحسین علیه السلام وصفاته، ومعركته فی كربلاء، والمال الذی آل إلیه عیاله بعد الفاجعة. یقول الشیخ الفرطوسی فی وصف مصرع الإمام علیه السلام:
فأتى الشمر لا رعى الله شمراً * شاهراً سیفه بغیر اتقاء
وهو أقسى من الحجارة قلباً * حین یسطو من شدة الكبریاء
فارتقى صدره وحزَّ ضلالاً * منحریه بغلظة وجفاء
یا لهول المصاب هذا حسینٌ * وهو شلو مقطع الأعضاء ([3])
فنحن، على الرغم من تأثرنا وتوقد إحساسنا فی قراءة هذا المشهد، ولكننا نراه مشهدًا محایدًا یصف جانبًا من أحداث كربلاء دون أن تكون للعصر الذی نعیشه سمة أو ملمح. وعلى هذا المنوال یسیر أغلب الشعر الحسینی الذی یُلقى على منابر المجالس الحسینیة التی یُراد فیها التذكیر بالحدث الحسینی، وتحفیز المشاعر إزاء هذا الحدث.
هذه الطریقة (التعبیر عن الشخصیة) له وجه آخر إیجابی یختلف عن المنهج التقلیدی، وهو الوجه الذی یوظّف الحدث الحسینی لمعانٍ سیاسیة واجتماعیة معاصرة، ولكن بطریقة استنهاضیة مباشرة تهدف إلى تغییر أحوال الأمة إلى الهدف الذی ثار من أجله الحسین علیه السلام، وهو تحكیم الإسلام فی واقع الحیاة. وسیادة الإسلام فی أعراف المجتمع. ولهذا الاتجاه شعراؤه الكثر ونكتفی هنا بالإشارة إلى شعر الشیخ أحمد الوائلی فی مثل قوله:
وضعناك بالأعناق حرزاً وإنما * خلقت لأن تُنضى حساماً وتُشْرَعُ
وصُغناك من دمع وتلك نفوسنا * نصورها، لا أنت، إنك أرفعُ
فإن شئت أن تحیا فألهم نفوسنا * لننهل من كأس شربتَ ونجرعُ([4])
وفیه ـ كما ترى ـ نقدٌ لاذع للطریقة التی یتعامل معها عامة الناس مع الحدث الحسینی، وفیه توجیه إلى المسار الذی سلكه الحسین علیه السلام، وهو مسار لمقارعة الظالمین ومسار الشهادة.
وفی هذا الشعر التوظیفی الذی فیه مسحة الحداثة والجدة ما نجده فی قصائد السید مصطفى جمال الدین فی مثل قوله:
ذكراك، تنطفئ السنین وتغربُ * ولها على كف الخلود تَلّهبُ
لا الظلم یلوی من طماح ضرامها * أبداً ولا حقد الضمائر یحجب
ذكرى البطولة لیلها كنهارها * ضاحٍ تؤجّ به الدماء وتلْهَبُ
ذكرى العقیدة لم یَنُؤ متنٌ لها * بالحادثات، ولم یخنْها منكِبُ ([5])
ولكن هذا الشعر على الرغم من قربه من نفوس الناس وربطه بین الحدث الحسینی والحدث المعاصر لا یمكن أن یُدرج ضمن التوظیف الرمزی بل ولا حتى التوظیف الإشاری الذی نجده لدى شعراء المدرسة الاحیائیة أمثال أحمد شوقی([6]). بل هو شعرٌ وصفی یتوفر فیه الشاعر على وصف الإمام أو وصف أحداث كربلاء، أو یربط بین الماضی والحاضر فی قصیدة كاملة، أو جانب كبیر من العقیدة، وغالبًا ما یتم هذا فی إحیاء مناسبة عاشوراء، ویكون فی صورة رثاء، أو صورة استنهاض سیاسی واجتماعی.
الشخصیة الحسینیة رمزاً:
لقد سبق الشعراءُ غیر الإسلامیین الشعراءَ الإسلامیین فی طریقة التعامل الذی لم یبلغه الشعراء الإسلامیون بعد خاصة فی صورة رسم (النموذج) الموضوعی للشخصیة، واعتبارها معادلاً لعواطف الشاعر ومشكلاته المعاصرة، نجد هذا لدى شعراء مثل حسب الشیخ جعفر، وأدونیس، وممدوح عدوان وغیرهم([7]) والحق أنهم یلتقون مع الإسلامیین فی وجهة التوظیف فی اغلب الأحیان، وان حاول بعضهم أن یسرق رموزًا إسلامیة أخرى ویوظفها توظیفًا ماركسیًا مثل تعاملهم مع شخصیة الإمام علی وأبی ذر الغفاری كما فعل مظفر النواب مثلاً.
ونود هنا أن نتتبع خطوتین من خطوات التعامل الرمزی مع الشخصیة الحسینیة لدى الشعراء الإسلامیین.
الأولى: التعامل الإشاری الجزئی:
وهو التعامل الذی یكون من خلال بیت شعری أو صورة شعریة جزئیة، واضعًا الشخصیة فی سیاق مُوحٍ مشعّ بالدلالة على معانٍ متعددة مرتبطة بأخلاق الإمام وصفاته وأهداف ثورته. نجد مثل هذا فی شعر مدین الموسوی مخاطبًا سالكی منهج الحسین فی الثورة والرفض: یا سالكاً درب الحسین * تخاف خطوتك الدروبُ
وتلوذ منها كالظلام * إذا هدى برقٌ رهیبُ
حشدوا لك العقباتِ * ظنّاً منكَ یغریكَ الهروبُ
خسؤوا لقد فتحوا لك الدنیا * فعدتَ بها تجوبُ ([8])
فالدرب الحسینی هنا درب واضح الأبعاد تلوذ منه دروب الاستكانة والذی كما یلوذ الظلام من البرق الرهیب! وهو الدرب الذی یتجاوز معه سالكه كل الصعاب ویقتحم كل المشقات. ولكنها لا تشكل جانبًا فی العقیدة واسعًا أو تمحور العقیدة كلها حول دلالتها الرمزیة.
نجد مثل هذا فی شعر مصطفى محمد الغماری الذی یأخذ ملمحًا فی ملامح الشخصیة أو صفة من صفاتها وهی صفة الإباء والكبر على الطغاة، یفعل هذا حین یخاطب الشهید السید محمد باقر الصدر بـ(كبر الحسین):
غالتكَ یا كبرَ الحسین عصابةُ «البعثِ» الهجینْ([9]).
أو حین یقرن بین الرمزین على سبیل التضاد، رمز الإمام الحسین ورمز (یزید) أو بنی أمیة عمومًا مشیرًا إلى السائد من توجهات الناس من الإعراض عن منهج الحسین والإقبال على (دنیا) یزید:
كم تاجروا بدم الحسین * وقدسوا دنیا یزید!!([10])
وقد یتمّ الرمز الجزئی عن طریق ذكر مسمیات یستدعی ذكرها استحضار الشخصیة الحسینیة، مثل واقعة الطف أو كربلاء أو الإشارة إلى السیدة زینب أو استدعاء الشخصیات المجاهدة مع الإمام، وربما أورد الشعراء سیف الإمام أو مهره الجریح، ولكن هذا كله یتمّ عبر اللمحة الجزئیة من العقیدة، ولا یشكل نسیجها الكلی، كما اشرنا، نجد شیئًا من هذا فی شعر جواد جمیل فی قوله:
یا كِبَر الدماءْ
یا لونَ إعصارٍ یخطّ الجرحَ
فی رمال كربلاءْ
إغضبْ فهذا موسمُ الطواف بالمآزر الحمراءْ!!([11])
فكر بلاء رمز الجراح والغضب والتضحیات، كما تتبدى فی هذا المقطع الجزئی، وهی رمز معادل لشخصیة الإمام نفسه وفی نموذج آخر نراه یقول:
هامتی تشمخ كالنخل العراقی وأطول
وأنا ما عدتُ أعزلْ
فی عیونی غضبٌ یحفرُهُ
مهرٌ حسینیٌّ مُحجّلْ
كلما ألهبَه سوطُك أضحى لیَ أجملْ!!([12])
فالمهر الحسینی رمز مفعم بالإیحاء من خلال السیاق الثائر الذی وضعه الشاعر فیه، حتى اقترن المهر بالغضب، وأحلّ احدهما بالآخر، ولقد أعطت الصفة (محجّل) لهذا المهر سمة من التمیز والجلال والهیبة.
إنّ هذه الصورة الجزئیة یمكن اعتبارها مرحلة أولى وهامة من مراحل الانتقال بالشخصیة الحسینیة من التعبیر عنها إلى التعبیر بها عن معانٍ وأحاسیس معاصرة.
الثانیة: وهی الصورة التی یُعبّر الشاعر فیها بالشخصیة أو من خلالها عما یرید فی دلالات، ولم تعد مثل الحدیث عن الشخصیة إیغالاً بالتاریخ بل إحساسًا بالهموم التی تحاصر إنسان الیوم وبالضغوط التی تأخذ بخناقه وتسد علیه المسارب، وهذا إما هارب أمامها، أو مواجه لها وروحه بین كفیه...
فالحسین فی هذه الصورة الرمزیة یرحل إلیها، یعیش بیننا، ویستشهد بین أیدینا، وتكون لنا ثمة مواقف متعددة، فمنا العباس وعلی الأكبر، ومنا زهیر بن القین وحبیب بن مظاهر، ومنا الحر بن یزید الریاحی... ومنا كذلك یزید، ومنا الشمر، ومنا عبید الله بن زیاد...
ولم یكن الشاعر راحلاً إلى الحدث الحسینی وحده، بل جعل الحدث الحسینی یرحل إلى القرن العشرین ویحضر فی صراعه ممثلاً فی ورثة الحسین علیه السلام وعشاق دربه.
ومثل ذلك فعل مصطفى الغماری فی قوله:
تعالوا..
فما زال دمعُ القرونْ
وما زال غدرُ القرونْ
وسیفُ (علیٍ)
وزیفُ (أمیّهْ)
وما زال فی الدرب وردُ (الحسینْ)
وشوكٌ تعهَّده (ابنُ سمیّهْ)!!([13]).
فلم یكن حدیث الغماری عن الإمام الحسین علیه السلام لذاته، بل عن أیام الناس هذه التی ظهر فیها ألف حسین وألف یزید ولعل كلمة (ما زال) هی التی أحدثت النقلة من الماضی إلى الحاضر، وجعلت الشاعر یعبّر بالشخصیة عن عصره، ولم یرحل إلى الشخصیة لیعبّر عنها وعن عصرها.
ومن التعبیر اللافت ما یختصر ظاهرة أو سیرة حیاة أو ملمحًا من ملامح التعریف الذاتی للشخصیة على طریقة اللافتة الشعریة وما تستبطن من دلالات وإیحاءات فی الشعر المعاصر، یقول فرات الأسدی فی قصیدة عنوانها (بطاقة شخصیّة):
على ضفّةِ العطشِ (الكربلائیِّ)،
یومًا وُلِدْتُ،
وتحت لَهاتیَ طینُ الفراتْ
وبینَ جفونیْ العصافیرُ نائمةً،
والنخیلُ تهدهدها،
والصبایا تصوغُ لها الأغنیاتْ.
وُلدِتُ،
وكفّیَ مقبوضةٌ لستُ أفتحُها..
ولحظةَ فكّوا أناملها
وجدوا: الحزنَ والجُرحَ،
ـ خبَّأتُ ـ
والشعرَ والكلماتْ..
فقبَّلنی والدی فی جبینی،
وكبَّر فی أُذنیَّ، وقالَ لأمیَ:
هذا ولیدُ الشتاتْ!([14])
ولم یكن حدیث الأسدی أیضًا عن الإمام الحسین علیه السلام لذاته بل عن عمق ارتباط ثلاثیة المكان والزمان والإنسان فی الرمز الحسینی، واسقاطها على مفردة الولادة وما یكتنفها من ترقّب ورهبة وغموض وأمل، ومصیر یحدّد مسار المولود وحیاته یستدعی الماضی إلى الحاضر ویستحضر كربلاء وأجواءها فی قضیة الإمام الحسین علیه السلام ومضامینها الواسعة الممتدة، والرموز الضاربة العمق والدلالة.
ونتدرّج مع سبل التعبیر بالشخصیة الحسینیة فنجد لدى الشاعر جواد جمیل توظیفًا أكثر عمقًا واتقادًا وتوترًا، ففی قصیدته (أشیاء مثل الدم) یسأل الجرح والدرب والمتعبین والقلب فیجیبه كل أولئك بما یفید الإصرار على المضی فی طریق العطاء والكدح والشهادة على الرغم من أن الطریق مازال كما كان زمن الحسین علیه السلام:
وأخبرنی بأنّ الطف مازالت تُرضّ
على ثراه الأضلعُ الحمرا
وما زالت ملطّخةً هناك الأذرعُ البتْرا
ومازال الرضیعُ، یذوب من عطشٍ
فتمسح وجهَه (الحورا)
ومازال الحدیدُ یئنّ، یُثقلُ مشیةَ الأسرى
وأخبرنی بأن نَظما
وأخبرنی بأن نَعرى
ولكنْ لم یقل: إنّ الجراحَ تُباعُ أو تُشرى!!([15])
فما زالت المذبحة قائمة، ومازالت نماذج فی الأضلع الحمرا التی رُضّت فی أرض كربلاء ونماذج من الرضّع الذین لم یجدوا حتى مثل الحوراء زینب التی كانت تمسح عن وجوه أیتام الحسین.. ومازال الحدید.. ولكنه ذو ثقل آخر خلف قضبان السجون وسرادیب المعتقلات... كل هذا یحدث ولكن أنصار الحسین علیه السلام لم یفكروا لحظة فی أن یغیّروا مسار الطریق أو یساوموا أو یبیعوا القضیة بدریهمات (یزید) أو وعید (یزید).. إنها ملحمة صراع جدیدة تعتمد فی رموزها على استیحاء الشخصیة الحسینیة لإلقاء الضوء على مشاهد أكثر رعبًا وقسوة، وأكثر تحدیًا وشوقًا لعناق الموت!
إنّ هذه الصورة من التعامل مع الرمز لم تنظر إلى قضیة الحسین علیه السلام المعاصرة على أنّها قضیة بیئة معینة أو قضیة مذهب من المذاهب الإسلامیة، بل قضیة عقیدة تحاصر ویراد لها أن تُنسى ویُراد لأتباعها أن یذلّوا، ولكن العقیدة التی یمثّلها الإمام الحسین علیه السلام تبرز فی هذا الشعر متحدّیة خالدة، وأتباع هذه العقیدة یتنافسون فی رفعها وتقدیم التضحیات من أجلها.
على أنّنا نلاحظ أنّ الشعر الإسلامی المعاصر لم یبلغ بالشخصیة الحسینیة درجة (القناع) أو (النموذج) الذی یعبّر فیه من خلال القصیدة كاملاً عن المحنة المعاصرة. ویقصد بهذا القناع أو النموذج أن ینسحب الشاعر بلغته الذاتیة وأناه، ویترك الشخصیة القناع تتحدّث بموضوعیة لا على أساس أنها (حسین) العقد السادس من القرن الأول الهجری، ولكن على أساس أنها (حسین) القرن العشرین بكل ما یعج به هذا القرن من تناقضات وسرقات وطغیان وسفك دماء ومصادرة مبادئ ودجل إعلام وجور بشر وقلوب وحوش.
كیف یحدث هذا؟ الحق إنّه یحتاج إلى مهارة فنیة عالیة، ویحتاج إلى حالة من الموضوعیة المتأتیة فی دراسة الفن المسرحی والقصصی الذی تبتدع فی الشخصیات ابتداعًا ویختفی الكاتب وراء حركة وتطور تلك الشخصیات([16]).
ولعل الذی أبعد شعراء التجربة الإسلامیة عن هذا الشكل من الرمز هو درجة الحماس والتوقّد التی تستدعی حضور (الأنا) الشعریة حضورًا بارزًا، بینما یحتاج خلق الشخصیة الموضوعیة من خلال القناع والنموذج إلى هدوء تام. وهو الهدوء الذی یفتقر إلیه شاعر التجربة الإسلامیة المعاصرة الذی یجد نفسه محاصرًا بالنیران من كل جانب، فلا یملك إلا أن یصرخ بكل ما تسعفه حنجرته وبكل ما یملكه قلبه من خفقان!!
الهوامش:
([1]) ینظر بحث الدكتور حاتم عبد حبّوب الساعدی (الحسین فی الشعر العراقی المعاصر) للتعرف على تفاصیل شخصیة الإمام وثورته لدى شعراء العصر الحدیث فی العراق، وهو بحث نال به درجة الدكتوراه فی كلیة دار العلوم ـ جامعة القاهرة.
([2]) استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر، د. علی عشری زاید، الشركة العامة للنشر، لیبیا، ط 1، 1978، ص 15.
([3]) ملحمة أهل البیت، ج3 ص 334/ دار الزهراء ـ بیروت، ط 21 1978.
([4]) دیوانه المخطوط، ص 43، نقلاً عن بحث الدكتور حاتم عبد حبوب ص 180.
([5]) عن بحث الدكتور حاتم، ص 183، والعقیدة منشورة فی مجلة الأضواء عدد (91).
([6]) الأسطورة فی الشعر المعاصر، د. أنس داود، المنشأة الشعبیة، طرابلس، ص 233.
([7]) استدعاء الشخصیات التراثیة، د. علی عشری زاید: ص 153، وما بعدها.
([8]) الجرح بالغة القرآن، طهران، ط1، 1404هـ، ص 230.
([9]) لن یقتلوك، مطبعة البعث، قسنطینة الجزائر، ط1، 1980، ص 9.
([10]) قراءة فی آیة السیف، الشركة الوطنیة، الجزائر، ط1، 1983، ص 50.
([11]) أشیاء حذفتها الرقابة، بدون تاریخ، أو سند طبع، ص 181.
([12]) للثوار فقط، دار الفرات، بیروت، ط1، 1991، ص 11.
([13]) قراءة فی زمن الجهاد، مطبعة البعث، الجزائر، ط1، 1400، 1980، ص 15.
([14]) ذاكرة الصمت والعطش، ص 15، والغلاف الأخیر.
([15]) أشیاء حفتها الرقابة، ص 97، 98.
([16]) للتعرّف على فنّیات (القناع) ینظر، اتجاهات الشعر المعاصر، د. إحسان عباس، سلسلة المعرفة، الكونیة، ط1، 1978، ص 154، بالإضافة إلى كتاب (استدعاء الشخصیات التراثیة)، و(الأسطورة فی الشعر العربی المعاصر) سالفی الذكر.
أولاً: لدى الشعراء ذوی الاتجاه الإسلامی فی المرحلة المتأخرة من العقود الثلاثة الأخیرة وهی مرحلة الوعی الإسلامی الخاص والصحوة الإسلامیة المتوقدة التی حمل فیها الشاعر الإسلامی الملتزم العقیدة الإسلامیة مبدأ ونظامًا وحلّا حضاریًا شاملاً، وراح یبشّر به ویعمل له، ویضحّی من أجله.
ثانیًا: والحدیث سیكون عند جانب واحد من تجربة هؤلاء الشعراء وهو التعامل مع الشخصیة الحسینیة تعاملاً رمزیًا.
وقبل الحدیث عن طریقة تعامل الشعراء الشباب الإسلامیین مع الشخصیة الحسینیة رمزّیًا، لا بد من التعرف على طرق الشعراء الذین سبقوهم فی التعامل مع هذه الشخصیة.
التعبیر عن الشخصیة:
ویتم بهذه الطریقة سرد أحداث الشخصیة ونظمها نظمًا تقریریًا([2]). فالشخصیة الحسینیة موصوفة وُمتحَّدث عنها وعن أحداث المعركة التی خاضتها وعن الأبطال الذین شاركوا فیها، وعن الضحایا والنساء والأطفال الذین شهدوها. وقد كان هذا الطابع العام للشعر الحسینی الذی كتب فی القرن الماضی بل فی كثیر من الشعر الذی كتب فی النصف الأول من هذا القرن. وهو شعر، فی الغالب منه، لا تجد فیه توظیفًا للحدث الحسینی لعلاج مشكلات العصر ومظالم العصر، إلا بطریقة یستوحیها القارئ استیحاءً تجد هذا مثلاً فی ملحمة الشیخ عبد المنعم الفرطوسی التی بلغت خمسًا وعشرین ألف بیت، فهی على عظم الجهد الذی بذله الشاعر لا تتعدّى كونها تاریخًا منظومًا للأحداث التی مرّ بها أهل البیت علیهم السلام ومواقفهم فی هذه الأحداث، ویهمنا من هذه الملحمة الجزء الثالث الذی وقف فی جانبٍ منه عند الإمام الحسین علیه السلام وصفاته، ومعركته فی كربلاء، والمال الذی آل إلیه عیاله بعد الفاجعة. یقول الشیخ الفرطوسی فی وصف مصرع الإمام علیه السلام:
فأتى الشمر لا رعى الله شمراً * شاهراً سیفه بغیر اتقاء
وهو أقسى من الحجارة قلباً * حین یسطو من شدة الكبریاء
فارتقى صدره وحزَّ ضلالاً * منحریه بغلظة وجفاء
یا لهول المصاب هذا حسینٌ * وهو شلو مقطع الأعضاء ([3])
فنحن، على الرغم من تأثرنا وتوقد إحساسنا فی قراءة هذا المشهد، ولكننا نراه مشهدًا محایدًا یصف جانبًا من أحداث كربلاء دون أن تكون للعصر الذی نعیشه سمة أو ملمح. وعلى هذا المنوال یسیر أغلب الشعر الحسینی الذی یُلقى على منابر المجالس الحسینیة التی یُراد فیها التذكیر بالحدث الحسینی، وتحفیز المشاعر إزاء هذا الحدث.
هذه الطریقة (التعبیر عن الشخصیة) له وجه آخر إیجابی یختلف عن المنهج التقلیدی، وهو الوجه الذی یوظّف الحدث الحسینی لمعانٍ سیاسیة واجتماعیة معاصرة، ولكن بطریقة استنهاضیة مباشرة تهدف إلى تغییر أحوال الأمة إلى الهدف الذی ثار من أجله الحسین علیه السلام، وهو تحكیم الإسلام فی واقع الحیاة. وسیادة الإسلام فی أعراف المجتمع. ولهذا الاتجاه شعراؤه الكثر ونكتفی هنا بالإشارة إلى شعر الشیخ أحمد الوائلی فی مثل قوله:
وضعناك بالأعناق حرزاً وإنما * خلقت لأن تُنضى حساماً وتُشْرَعُ
وصُغناك من دمع وتلك نفوسنا * نصورها، لا أنت، إنك أرفعُ
فإن شئت أن تحیا فألهم نفوسنا * لننهل من كأس شربتَ ونجرعُ([4])
وفیه ـ كما ترى ـ نقدٌ لاذع للطریقة التی یتعامل معها عامة الناس مع الحدث الحسینی، وفیه توجیه إلى المسار الذی سلكه الحسین علیه السلام، وهو مسار لمقارعة الظالمین ومسار الشهادة.
وفی هذا الشعر التوظیفی الذی فیه مسحة الحداثة والجدة ما نجده فی قصائد السید مصطفى جمال الدین فی مثل قوله:
ذكراك، تنطفئ السنین وتغربُ * ولها على كف الخلود تَلّهبُ
لا الظلم یلوی من طماح ضرامها * أبداً ولا حقد الضمائر یحجب
ذكرى البطولة لیلها كنهارها * ضاحٍ تؤجّ به الدماء وتلْهَبُ
ذكرى العقیدة لم یَنُؤ متنٌ لها * بالحادثات، ولم یخنْها منكِبُ ([5])
ولكن هذا الشعر على الرغم من قربه من نفوس الناس وربطه بین الحدث الحسینی والحدث المعاصر لا یمكن أن یُدرج ضمن التوظیف الرمزی بل ولا حتى التوظیف الإشاری الذی نجده لدى شعراء المدرسة الاحیائیة أمثال أحمد شوقی([6]). بل هو شعرٌ وصفی یتوفر فیه الشاعر على وصف الإمام أو وصف أحداث كربلاء، أو یربط بین الماضی والحاضر فی قصیدة كاملة، أو جانب كبیر من العقیدة، وغالبًا ما یتم هذا فی إحیاء مناسبة عاشوراء، ویكون فی صورة رثاء، أو صورة استنهاض سیاسی واجتماعی.
الشخصیة الحسینیة رمزاً:
لقد سبق الشعراءُ غیر الإسلامیین الشعراءَ الإسلامیین فی طریقة التعامل الذی لم یبلغه الشعراء الإسلامیون بعد خاصة فی صورة رسم (النموذج) الموضوعی للشخصیة، واعتبارها معادلاً لعواطف الشاعر ومشكلاته المعاصرة، نجد هذا لدى شعراء مثل حسب الشیخ جعفر، وأدونیس، وممدوح عدوان وغیرهم([7]) والحق أنهم یلتقون مع الإسلامیین فی وجهة التوظیف فی اغلب الأحیان، وان حاول بعضهم أن یسرق رموزًا إسلامیة أخرى ویوظفها توظیفًا ماركسیًا مثل تعاملهم مع شخصیة الإمام علی وأبی ذر الغفاری كما فعل مظفر النواب مثلاً.
ونود هنا أن نتتبع خطوتین من خطوات التعامل الرمزی مع الشخصیة الحسینیة لدى الشعراء الإسلامیین.
الأولى: التعامل الإشاری الجزئی:
وهو التعامل الذی یكون من خلال بیت شعری أو صورة شعریة جزئیة، واضعًا الشخصیة فی سیاق مُوحٍ مشعّ بالدلالة على معانٍ متعددة مرتبطة بأخلاق الإمام وصفاته وأهداف ثورته. نجد مثل هذا فی شعر مدین الموسوی مخاطبًا سالكی منهج الحسین فی الثورة والرفض: یا سالكاً درب الحسین * تخاف خطوتك الدروبُ
وتلوذ منها كالظلام * إذا هدى برقٌ رهیبُ
حشدوا لك العقباتِ * ظنّاً منكَ یغریكَ الهروبُ
خسؤوا لقد فتحوا لك الدنیا * فعدتَ بها تجوبُ ([8])
فالدرب الحسینی هنا درب واضح الأبعاد تلوذ منه دروب الاستكانة والذی كما یلوذ الظلام من البرق الرهیب! وهو الدرب الذی یتجاوز معه سالكه كل الصعاب ویقتحم كل المشقات. ولكنها لا تشكل جانبًا فی العقیدة واسعًا أو تمحور العقیدة كلها حول دلالتها الرمزیة.
نجد مثل هذا فی شعر مصطفى محمد الغماری الذی یأخذ ملمحًا فی ملامح الشخصیة أو صفة من صفاتها وهی صفة الإباء والكبر على الطغاة، یفعل هذا حین یخاطب الشهید السید محمد باقر الصدر بـ(كبر الحسین):
غالتكَ یا كبرَ الحسین عصابةُ «البعثِ» الهجینْ([9]).
أو حین یقرن بین الرمزین على سبیل التضاد، رمز الإمام الحسین ورمز (یزید) أو بنی أمیة عمومًا مشیرًا إلى السائد من توجهات الناس من الإعراض عن منهج الحسین والإقبال على (دنیا) یزید:
كم تاجروا بدم الحسین * وقدسوا دنیا یزید!!([10])
وقد یتمّ الرمز الجزئی عن طریق ذكر مسمیات یستدعی ذكرها استحضار الشخصیة الحسینیة، مثل واقعة الطف أو كربلاء أو الإشارة إلى السیدة زینب أو استدعاء الشخصیات المجاهدة مع الإمام، وربما أورد الشعراء سیف الإمام أو مهره الجریح، ولكن هذا كله یتمّ عبر اللمحة الجزئیة من العقیدة، ولا یشكل نسیجها الكلی، كما اشرنا، نجد شیئًا من هذا فی شعر جواد جمیل فی قوله:
یا كِبَر الدماءْ
یا لونَ إعصارٍ یخطّ الجرحَ
فی رمال كربلاءْ
إغضبْ فهذا موسمُ الطواف بالمآزر الحمراءْ!!([11])
فكر بلاء رمز الجراح والغضب والتضحیات، كما تتبدى فی هذا المقطع الجزئی، وهی رمز معادل لشخصیة الإمام نفسه وفی نموذج آخر نراه یقول:
هامتی تشمخ كالنخل العراقی وأطول
وأنا ما عدتُ أعزلْ
فی عیونی غضبٌ یحفرُهُ
مهرٌ حسینیٌّ مُحجّلْ
كلما ألهبَه سوطُك أضحى لیَ أجملْ!!([12])
فالمهر الحسینی رمز مفعم بالإیحاء من خلال السیاق الثائر الذی وضعه الشاعر فیه، حتى اقترن المهر بالغضب، وأحلّ احدهما بالآخر، ولقد أعطت الصفة (محجّل) لهذا المهر سمة من التمیز والجلال والهیبة.
إنّ هذه الصورة الجزئیة یمكن اعتبارها مرحلة أولى وهامة من مراحل الانتقال بالشخصیة الحسینیة من التعبیر عنها إلى التعبیر بها عن معانٍ وأحاسیس معاصرة.
الثانیة: وهی الصورة التی یُعبّر الشاعر فیها بالشخصیة أو من خلالها عما یرید فی دلالات، ولم تعد مثل الحدیث عن الشخصیة إیغالاً بالتاریخ بل إحساسًا بالهموم التی تحاصر إنسان الیوم وبالضغوط التی تأخذ بخناقه وتسد علیه المسارب، وهذا إما هارب أمامها، أو مواجه لها وروحه بین كفیه...
فالحسین فی هذه الصورة الرمزیة یرحل إلیها، یعیش بیننا، ویستشهد بین أیدینا، وتكون لنا ثمة مواقف متعددة، فمنا العباس وعلی الأكبر، ومنا زهیر بن القین وحبیب بن مظاهر، ومنا الحر بن یزید الریاحی... ومنا كذلك یزید، ومنا الشمر، ومنا عبید الله بن زیاد...
ولم یكن الشاعر راحلاً إلى الحدث الحسینی وحده، بل جعل الحدث الحسینی یرحل إلى القرن العشرین ویحضر فی صراعه ممثلاً فی ورثة الحسین علیه السلام وعشاق دربه.
ومثل ذلك فعل مصطفى الغماری فی قوله:
تعالوا..
فما زال دمعُ القرونْ
وما زال غدرُ القرونْ
وسیفُ (علیٍ)
وزیفُ (أمیّهْ)
وما زال فی الدرب وردُ (الحسینْ)
وشوكٌ تعهَّده (ابنُ سمیّهْ)!!([13]).
فلم یكن حدیث الغماری عن الإمام الحسین علیه السلام لذاته، بل عن أیام الناس هذه التی ظهر فیها ألف حسین وألف یزید ولعل كلمة (ما زال) هی التی أحدثت النقلة من الماضی إلى الحاضر، وجعلت الشاعر یعبّر بالشخصیة عن عصره، ولم یرحل إلى الشخصیة لیعبّر عنها وعن عصرها.
ومن التعبیر اللافت ما یختصر ظاهرة أو سیرة حیاة أو ملمحًا من ملامح التعریف الذاتی للشخصیة على طریقة اللافتة الشعریة وما تستبطن من دلالات وإیحاءات فی الشعر المعاصر، یقول فرات الأسدی فی قصیدة عنوانها (بطاقة شخصیّة):
على ضفّةِ العطشِ (الكربلائیِّ)،
یومًا وُلِدْتُ،
وتحت لَهاتیَ طینُ الفراتْ
وبینَ جفونیْ العصافیرُ نائمةً،
والنخیلُ تهدهدها،
والصبایا تصوغُ لها الأغنیاتْ.
وُلدِتُ،
وكفّیَ مقبوضةٌ لستُ أفتحُها..
ولحظةَ فكّوا أناملها
وجدوا: الحزنَ والجُرحَ،
ـ خبَّأتُ ـ
والشعرَ والكلماتْ..
فقبَّلنی والدی فی جبینی،
وكبَّر فی أُذنیَّ، وقالَ لأمیَ:
هذا ولیدُ الشتاتْ!([14])
ولم یكن حدیث الأسدی أیضًا عن الإمام الحسین علیه السلام لذاته بل عن عمق ارتباط ثلاثیة المكان والزمان والإنسان فی الرمز الحسینی، واسقاطها على مفردة الولادة وما یكتنفها من ترقّب ورهبة وغموض وأمل، ومصیر یحدّد مسار المولود وحیاته یستدعی الماضی إلى الحاضر ویستحضر كربلاء وأجواءها فی قضیة الإمام الحسین علیه السلام ومضامینها الواسعة الممتدة، والرموز الضاربة العمق والدلالة.
ونتدرّج مع سبل التعبیر بالشخصیة الحسینیة فنجد لدى الشاعر جواد جمیل توظیفًا أكثر عمقًا واتقادًا وتوترًا، ففی قصیدته (أشیاء مثل الدم) یسأل الجرح والدرب والمتعبین والقلب فیجیبه كل أولئك بما یفید الإصرار على المضی فی طریق العطاء والكدح والشهادة على الرغم من أن الطریق مازال كما كان زمن الحسین علیه السلام:
وأخبرنی بأنّ الطف مازالت تُرضّ
على ثراه الأضلعُ الحمرا
وما زالت ملطّخةً هناك الأذرعُ البتْرا
ومازال الرضیعُ، یذوب من عطشٍ
فتمسح وجهَه (الحورا)
ومازال الحدیدُ یئنّ، یُثقلُ مشیةَ الأسرى
وأخبرنی بأن نَظما
وأخبرنی بأن نَعرى
ولكنْ لم یقل: إنّ الجراحَ تُباعُ أو تُشرى!!([15])
فما زالت المذبحة قائمة، ومازالت نماذج فی الأضلع الحمرا التی رُضّت فی أرض كربلاء ونماذج من الرضّع الذین لم یجدوا حتى مثل الحوراء زینب التی كانت تمسح عن وجوه أیتام الحسین.. ومازال الحدید.. ولكنه ذو ثقل آخر خلف قضبان السجون وسرادیب المعتقلات... كل هذا یحدث ولكن أنصار الحسین علیه السلام لم یفكروا لحظة فی أن یغیّروا مسار الطریق أو یساوموا أو یبیعوا القضیة بدریهمات (یزید) أو وعید (یزید).. إنها ملحمة صراع جدیدة تعتمد فی رموزها على استیحاء الشخصیة الحسینیة لإلقاء الضوء على مشاهد أكثر رعبًا وقسوة، وأكثر تحدیًا وشوقًا لعناق الموت!
إنّ هذه الصورة من التعامل مع الرمز لم تنظر إلى قضیة الحسین علیه السلام المعاصرة على أنّها قضیة بیئة معینة أو قضیة مذهب من المذاهب الإسلامیة، بل قضیة عقیدة تحاصر ویراد لها أن تُنسى ویُراد لأتباعها أن یذلّوا، ولكن العقیدة التی یمثّلها الإمام الحسین علیه السلام تبرز فی هذا الشعر متحدّیة خالدة، وأتباع هذه العقیدة یتنافسون فی رفعها وتقدیم التضحیات من أجلها.
على أنّنا نلاحظ أنّ الشعر الإسلامی المعاصر لم یبلغ بالشخصیة الحسینیة درجة (القناع) أو (النموذج) الذی یعبّر فیه من خلال القصیدة كاملاً عن المحنة المعاصرة. ویقصد بهذا القناع أو النموذج أن ینسحب الشاعر بلغته الذاتیة وأناه، ویترك الشخصیة القناع تتحدّث بموضوعیة لا على أساس أنها (حسین) العقد السادس من القرن الأول الهجری، ولكن على أساس أنها (حسین) القرن العشرین بكل ما یعج به هذا القرن من تناقضات وسرقات وطغیان وسفك دماء ومصادرة مبادئ ودجل إعلام وجور بشر وقلوب وحوش.
كیف یحدث هذا؟ الحق إنّه یحتاج إلى مهارة فنیة عالیة، ویحتاج إلى حالة من الموضوعیة المتأتیة فی دراسة الفن المسرحی والقصصی الذی تبتدع فی الشخصیات ابتداعًا ویختفی الكاتب وراء حركة وتطور تلك الشخصیات([16]).
ولعل الذی أبعد شعراء التجربة الإسلامیة عن هذا الشكل من الرمز هو درجة الحماس والتوقّد التی تستدعی حضور (الأنا) الشعریة حضورًا بارزًا، بینما یحتاج خلق الشخصیة الموضوعیة من خلال القناع والنموذج إلى هدوء تام. وهو الهدوء الذی یفتقر إلیه شاعر التجربة الإسلامیة المعاصرة الذی یجد نفسه محاصرًا بالنیران من كل جانب، فلا یملك إلا أن یصرخ بكل ما تسعفه حنجرته وبكل ما یملكه قلبه من خفقان!!
الهوامش:
([1]) ینظر بحث الدكتور حاتم عبد حبّوب الساعدی (الحسین فی الشعر العراقی المعاصر) للتعرف على تفاصیل شخصیة الإمام وثورته لدى شعراء العصر الحدیث فی العراق، وهو بحث نال به درجة الدكتوراه فی كلیة دار العلوم ـ جامعة القاهرة.
([2]) استدعاء الشخصیات التراثیة فی الشعر العربی المعاصر، د. علی عشری زاید، الشركة العامة للنشر، لیبیا، ط 1، 1978، ص 15.
([3]) ملحمة أهل البیت، ج3 ص 334/ دار الزهراء ـ بیروت، ط 21 1978.
([4]) دیوانه المخطوط، ص 43، نقلاً عن بحث الدكتور حاتم عبد حبوب ص 180.
([5]) عن بحث الدكتور حاتم، ص 183، والعقیدة منشورة فی مجلة الأضواء عدد (91).
([6]) الأسطورة فی الشعر المعاصر، د. أنس داود، المنشأة الشعبیة، طرابلس، ص 233.
([7]) استدعاء الشخصیات التراثیة، د. علی عشری زاید: ص 153، وما بعدها.
([8]) الجرح بالغة القرآن، طهران، ط1، 1404هـ، ص 230.
([9]) لن یقتلوك، مطبعة البعث، قسنطینة الجزائر، ط1، 1980، ص 9.
([10]) قراءة فی آیة السیف، الشركة الوطنیة، الجزائر، ط1، 1983، ص 50.
([11]) أشیاء حذفتها الرقابة، بدون تاریخ، أو سند طبع، ص 181.
([12]) للثوار فقط، دار الفرات، بیروت، ط1، 1991، ص 11.
([13]) قراءة فی زمن الجهاد، مطبعة البعث، الجزائر، ط1، 1400، 1980، ص 15.
([14]) ذاكرة الصمت والعطش، ص 15، والغلاف الأخیر.
([15]) أشیاء حفتها الرقابة، ص 97، 98.
([16]) للتعرّف على فنّیات (القناع) ینظر، اتجاهات الشعر المعاصر، د. إحسان عباس، سلسلة المعرفة، الكونیة، ط1، 1978، ص 154، بالإضافة إلى كتاب (استدعاء الشخصیات التراثیة)، و(الأسطورة فی الشعر العربی المعاصر) سالفی الذكر.
بقلم الدكتور شلتاغ عبود
+درج شده توسط مترجم عربی - دکتر مهدي شاهرخ در جمعه ۱ شهریور ۱۳۹۲و ساعت 0:9|