جمالیة التكرار فی دیوان "قَلیلكِ لا كثیرهُنَّ" لیحیى السماوی
إن التكرار عنصر من عناصر البلاغة اهتم به الشعراء العرب المعاصرون اهتماماً بالغاً، ومن بینهم الشاعر العراقی المقیم فی استرالیا یحیى السماوی الذی نشر دیوانه بعنوان "قلیلكِ .. لا كثیرهُنّ" وفیه مایتعلق بزوجته الفاضلة وهموم وطنه الأصلی الذی لم ینفك مصدر آهاته ونفثاته وآلامه وذكریاته...
تهدف هذه المقالة إلى تحلیل التكرار والأسلوبیة الجمالیّة وأنماطه فی دیوان یحیى السماوی التی تمثلت فی تكرار الألفاظ "تكرار الكلمة المفردة، الكلمات الطبیعة، المقابلات والضمائر"، وتكرار العبارات "تكرار الجملة المستقلة، تكرار عنوان القصائد، تكرار الأسالیب المتنوعة، تكرار التركیب الاستفهامی والندائی " مستعیناً بالمنهج الوصفی- التحلیلی. ومن النتائج التی توصلنا إلیها أنّ الدیوان یعكس هموم الشاعر والآلام الصادقة على نفسیته فی فراق العراق خلال جمالیة التكرار الذی شكّلت لُحمة الدیوان. فثمّة تناغم واضح بین أسلوب التكرار ومحتواه.
الكلمات الأساسیة: یحیى السماوی، قلیلكِ...لا كثیرهُنّ، الشعر العربی المعاصر، أسلوب التكرار.
1. المقدمة
إن الموسیقى عنصر أساسی من عناصر الشعر منذ قدیم الزمن. كما قال سید قطب فی تعریف الشعر: «الإیقاع المنغم المقسم فی الشعر یجعله مصاحباً للتعبیر الجسدی بالرقص عن الانفعلات الحسیة، كما یجعله أقدر على تلبیة التعبیر الوجدانی بالغناء»(قطب،2003م: 62). «لایوجد شعر بدون موسیقى، یتجلّى فیه جوهره وجوّه الزاخر بالنغم. والموسیقى تؤثّر فی أعصاب السامعین ومشاعرهم بقواها الخفیّة التی تشبه قوى السحر ... حتّى إذا فزعت موسیقى الشعر مسامعنا أخذت زمر إحساساتنا ومشاعرنا تتجانس معها وتتشاكل» (ضیف،1999م: 28).
فالموسیقى فی الشعر لیست حلیة خارجیة تضاف إلیه، وإنما هی وسیلة من أقوى وسائل الإیحاء، وأقدرها على التعبیر عن كل ما هو عمیق وخفی فی النفس مما لا یستطیع الكلام أن یعبر عنه(عشری زاید،2008م: 154). فإنّ للموسیقى وظیفة خاصة تتجلى لنا فیها المعانی وأحاسیس الشاعر. یقسم النقاد والباحثون الموسیقى على قسمین: الأول: الموسیقى الخارجیة التی تتشكّل من الوزن، والقافیة، وتجمع الحروف . الثانی: الموسیقى الداخلیة وهی التی تتجلى فی صور مختلفة كالتكرار والمحسنات اللفظیة.
بما أنّ خاصیة التکرار من الخصوصیات الجمالیة التی أضفت علی القصائد الحداثیة إیقاعاً تکاملیاً تفاعلیاً فی تحقیق النغم الموسیقی الذی غاب عن القصائد الحداثیة؛ وإن التکرار یکون عنصراً جوهریاً فی تماسک القصیدة وتفعیلها إیقاعیاً فلابد أن یتغلغل فی ثنایاها وبواطنها النفسیة والدلالیة (شرتح 2011م: 157). هذا البحث محاولة هادفة إلى دراسة جمالیة التكرار فی دیوان" قَلیلكِ … لا كثیرهُنَّ" لیحیى السماوی بالاعتماد على المنهج الوصفی التحلیلی ضمن الإجابة عن السؤالین التالیین:
1. ما هی أهمّ السمات البارزة لأسلوب التكرار فی دیوان یحیى السماوی؟
2. ما هی أهمّ المؤثرات الفکریة والإجتماعیة وراء أسلوب التكرار الشعری لیحیى السماوی؟
2. الدراسات السابقة
لقد كُتبت حول یحیى السماوی كتب ومقالات عدیدة قیّمة نخصّ منها بالذكر:
1. كتاب «موحیات الخطاب الشعری دراسة فی شعر یحیی السماوی» لعصام شرتح. وهو یسعى إلى فتح مغالیق تجربة السماوی الشعریة والدخول إلى أعماقها من خلال التتبع الدقیق للنصوص الشعریة.
2. كتاب «آفاق الشعریة دراسة فی شعر یحیى السماوی» لعصام شرتح. وهو یسعى إلى تبصیر القرّاء بتجربة شعریة متمیزة وصوت شاعری عظیم من العراق الشقیق.
3. كتاب «تجلیات الحنین فی تكریم الشاعر یحیى السماوی» فی مجلدین لماجد الغرباوی. یشتمل الكتاب على عدة أبواب: دراسات نقدیة، مقالات ورؤى وانطباعات، حوار مفتوح مع الشاعر اشتمل 80 سؤالا منوعاً... .
4. كتاب «تجربة العشق والإغتراب فی دیوان قلیلک لاکثیرهنّ» للدكتور محمد جاهین بدوی. یدرس الكاتبُ المحاور الرؤیویة العامة فی الدیوان منها: تجربة عشق الوطن وتجربة العشق الأنثوی. كما یقول بدوی: هذه المحاولة تكشف عن رؤیته الشعریة وأبعاد تجربته النفسیة. بینما نقوم بتحلیل التكرار وأسلوبیته الجمالیّة وأنماطه فی دیوان السماوی.
5. مقال لرسول بلاوی ومرضیة آباد بعنوان «استدعاء شخصیة الإمام الحسین "ع " فی شعر یحیى السماوی» هذ البحث یرصد استدعاء شخصیة الإمام الحسین ودلالتها فی تجربة الشاعر.
6. مقال لیحیى معروف وبهنام باقری بعنوان «عناصر الموسیقی فی دیوان نقوش على جذع نخلة لیحیى السماوی» هذا المقال یدرس الموسیقى الداخلیة والخارجیة. ومقال آخر لمرضیة آباد ورسول بلاوی بعنوان «دلالات الألوان فی شعر یحیى السماوی» فی مجلة إضاءات نقدیة، هذا المقال یتناول الألوان ودلالاتها فی شعر السماوی.
7. هناك مقالات عدیدة حول جمالیة التكرار فی شعر العربی المعاصر منها: مقال لجهانكیر أمیری وفاروق نعمتی بعنوان «أسلوبیة التكرار فی التعبیر عن شعور الاغتراب"شعر سید قطب نموذجا"» هذا البحث یدرس أسلوبیة التكرار الكثیف فی شعر سید قطب.
لا شك أن كل البحوث والدراسات التی تمّت حول الدیوان تكون ذات قیمة وفائدة تمهد الطریق للباحثین كما استفدنا منها نحن واعتمدنا علیها فی إعداد هذه المقالة، لكن لم تفرد دراسة مستقلة تدرس أهم ظواهر التكرار فی دیوانه هذا. فتحاول هذه المقالة أن تكشف جمالیات مظهر من مظاهر الموسیقى الداخلیة الذی اتسم به شعر یحیى السماوی ألا وهو التكرار بأشكاله المتنوعة ومستویاته المتعددة فی دیوان "قلیلكِ... لاكثیرهُنّ"، من تكرار الألفاظ، والمتقابلات، والجمل والتراكیب المتنوعة، .... وإبراز دور جمالیته فی البنیة الإیقاعیة والدلالیة فی الدیوان.
تأتی أهمیة هذه الدراسة من خلال محاولة قراءة النص الشعری عند یحیى السماوی، لتكشف عن دوافع الشاعر وراء اختیار أسلوب التكرار كأسلوب متمیز متسلط على دیوانه " قَلیلكِ … لا كثیرهُنَّ"
3. الإطار النظری
3-1. الأسلوبیة(Stylistics)
إنّ مصطلح الأسلوبیة لم یظهر إلا فی بدایة القرن العشرین مع ظهور الدراسات اللغویة الحدیثة(خفاجی الآخرون،1992: 11). أصبح مصطلح "الأسلوبیة" یطلق على منهج تحلیلی للأعمال الأدبیة، یقترح استبدال "الذاتیة" و"الإنطباعیة" فی النقد التقلیدی بتحلیل "موضوعی" أو "علمی" للأسلوب فی النصوص الأدبیة(المصدر نفسه:12).تبحث الأسلوبیة عن الخصائص الفنیة الجمالیة التی تمیز النص عن آخر أو الكاتب عن كاتب آخر من خلال اللغة التی استخدمها وتحاول الإجابة عن هذا السؤال: كیف یكتب الكاتب نصاً من خلال اللغة؟ وهی بوجه عام تدرس النص وتقرؤه من خلال لغته وما تعرضه من خیارات أسلوبیة على شتى مستویاتها: نحویاً ولفظیاً وصوتیاً وشكلیاً (المسدی،1984: 36).
یقول بالی: إن الأسلوبیة علم دراسة العوامل المؤثرة فی اللغة ولهذا توسع فی المفهوم فشمل كل ما یتعلق باللغة من تكرار الأصوات والصیغ والكلمات والتراكیب وتداخل مع علم الأصوات والصرف واللفاظة والدلالات والتراكیب (بلوچی،2004: 5). بما أن التكرار من أهم المكونات التی یقوم علیها یحیى السماوی خلال نصّه الشعری، لیكشف به من دلالات نفسیة عمیقة. نرى أنّه من الأنسب أن نتطرّق فی البدایة إلى التكرار وجمالیته كحقل من الحقول المعرفیة فی إطار الدراسات الأسلوبیة.
3-1-1. التکرار
إن التكرار إحدی الأدوات الأسلوبیة والآلیات التعبیریة التی باستطاعتها كشف أغوار النص، وبواسطتها نتعمق فی ما وراء ذاته، واستجلاء مختلف الأحاسیس والمشاعر، الحبیبة فی نفس المبدع، إنه إحدى المرایا العاكسة لكثافة الشعور المتراكم زمنیا عند الذات المبدعة، یتجمع فی بؤرة واحدة لیؤدی أغراضا عدیدة (حنی،2012م: 9). وهو بعبارة أخری إلحاح علی جهة هامة فی العبارة یُعنى الشاعر بها أکثر من عنایته بسواها، لیسلط الضوء علی نقطة حساسة فیها مرتبطة بدلالات نفسیة عمیقة (الملائکة، 1997م: 276). إذن التکرار من الوسائل اللغویة التی یمکن أن تؤدی فی القصیدة دوراً تعبیریاً واضحاً، فتکرار لفظة ما، أو عبارة ما، یوحی بشکلٍ أولی بسیطرة هذا العنصر المکرر وإلحاحه علی فکر الشاعر أو شعوره أو لا شعوره، ومن ثمَّ فهو لا یفتأ ینبثق فی أفق رؤیاه من لحظة لأخری، وقد عرفت القصیدة العربیة منذ أقدم عصورها هذه الوسیلة الإیحائیة (عشری زاید، 2008م: 58).
التكرار یؤدی إلى أن یولد من جدید عند شعراء القصائد الحرّة لما یحتوی علیه من إمكانیات تعبیریة یستطیع أن یغنی المعنى إلى درجة الأصالة، وذلك إن استطاع الشاعر أن یسیطر علیه سیطرة كاملة ویستخدمه فی موضعه دون أن ینزلق به فی اللفظیة المبتذلة(الملائكة،1977م: 263-264). كان ذلك كلّه من أجل خصائص إیجابیة للشعر الحرّ فی النزوع إلى الواقع وإلى الاستقلال والنفور من النموذج، والهرب من التناظر وإیثار المضمون(المصدر نفسه: 56-65). فتمكن أسلوب التكرار من هذا المنطلق، بصورة عامة، من أن یهدف إلى استكشاف المشاعر وإلى إبراز الإیقاع الدرامی(عید،1985م: 60).
من هنا یمكن القول إن بنیة التكرار فی القصیدة الحدیثة أصبحت تشكل نظاماً خاصاً داخل كیان القصیدة، یقوم هذا النظام على أسس نابعة من صمیم التجربة ومستوى عمقها وثرائها، وقدرتها على اختیار الشكل المناسب الذی یوفر لبنیة التکرار أكبر فرصة ممكنة لتحقیق التأثیر، من خلال فعالیته التی تتجاوز حدود الإمكانات النحویة واللغویة الصرف، لتصبح أداة موسیقیة ودلالیة فی آن معاً (عبید، 2001م: 188).
3-1-2. جمالیة التكرار
والحقیقة أن التكرار أسلوب یتحصن بمختلف القدرات التعبیریة التی من شأنه توافرها فی أی أسلوب تعبیری آخر، فهو یغنی المعنى ویرفعه إلى مرتبة الأصالة. التی تزید قوته وترسخ فی فكر المتلقی یمنحها ثقلا معنویا، وأداء متمیزا مشحونا بالعمق والتوالد الفكری (حنی،2012م: 9). من المعانی ما یکون للتشوق والاستعذاب فی التغزل أو النسیب، وما یكون على سبیل التنویه بالمذكور والإشارة إلیه فی المدح، وما یكون تفخیماً لاسم الممدوح فی القلوب والأسماع، وما یكون على سبیل التقریر والتوبیخ، وما یدور على سبیل التعظیم للمحكی، وما یدور على جهة الوعید والتهدید إن كان عتاباً موجعاً، وما یكون على وجه التوجع فی الرثاء، وما یكون على سبیل الإستغاثة، أو على سبیل الشهرة، أو التوضیع، أو الازدراء، والتهكم والقصص و... هو التكرار(القیروانی،د.ت،ج2: 74-76).
الظاهر أنّ الدلالة الشعوریة هی أهمّ دلالة وأصعبها یحملها اللفظ المكرر فی الشعر الحدیث لأنّ تكراره یهدف إلى استكشاف المشاعر الدفینة وإلى الإبانة عن دلالات داخلیة ویعدّ التكرار أحد المنافذ التی تفرغ هذه المشاعر المكبوتة. من ثمّ یجیء التكرار فی سیاق شعوری كثیف یبلغ أحیاناً درجة المأساة(الملائكة،1977م: 287). فإن دور التكرار فیها متعدد، وإن كان الهدف منه فى جمیع مواضعه، یؤدى إلى تأكید المعانی، وإبرازها فى معرض الوضوح والبیان (إبراهیم، 1992م: 322). التکرار یحقق للنصّ جانبین مهمین: الأول: یتمثل فی الحالة الشعوریة التی یضع – من خلالها الشاعر نفسه – المتلقی فی جو مماثل لما هو علیه، والثانی: الفائدة الموسیقیة، بحیث یحقق التكرار إیقاعاً موسیقیاً جمیلاً، ویجعل العبارة قابلة للنمو والتطبیق، وبهذا یحقق التكرار وظیفته، كإحدى الأدوات الجمالیة التی تساعد الشاعر على تشكیل موقفه وتصویره؛ لأنّ الصورة الشعریة على أهمیتها لیست العامل الوحید فی هذا التشكیل(شرتح،2011م: 163).
3-2. السیرة الذاتیة لیحیى السماوی
هو یحیی عباس عبود السماوی، وُلِد بمدینة السماوة بالعراق فی السادس عشر من مارس 1949 م، یُعتبر من روّاد الشعر العربی الحدیث، امتلک ناصیة الشعر فی وقتٍ مبکر. تخّرج فی کلیة الآداب جامعة المستنصریة عام 1974 م، ثمّ عمل بالتدریس والصحافة والإعلام، استهدف بالملاحقة والحصار من قبل البعثیین فی النظام الصدامی حتی فرّ إلی السعودیة سنة 1991م، واستقرّ بها فی جدة حتی سنة 1997م یعمل بالتدریس والصحافة، ثم انتقل مهاجراً إلی استرالیا ؛ وبها یقیم حتی کتابة هذه السطور (الغرباوی،2010م: 155). أصدر السماوی لحد الآن أکثر من واحد وعشرین دیواناً شعریاً وكتابین نثریین کدیوان "قلیلك... لاكثیرهنّ".
3-2-1. دیوان "قلیلك... لاكثیرهن"
قلیلُك... لا كثیرهنّ هو الدیوان قبل الأخیر فی سیاق الإصدارات الشعریة زمنیّاً لیحیى السماوی فی منفاه. والدیوان من حیث الشكل والقالب الفنی یضمّ إحدى وعشرین قصیدة، منها الإهداء، فهو عبارة عن قصیدة مستقلة، وهذه القصائد تتراوح بین الشكلین: التقلیدی الأصیل ذی الشطرین والتفعیلیّ، وإن غلب الشكل التفعیلیّ من الناحیة الكمیة، فقد استغرق هذا الشكل ستّ عشرة قصیدة، واستغرق الشكل الأصیل خمس قصائد طوالاً، كما تراوحت رؤیة الشاعر فی هذا الدیوان بین تجربة عشق الحبیبة/الوطن، والحبیبة المرأة، وتجربة معاناة النفی والإغتراب، مصطبغة كل تلك النماذج بغنائیة عذبة، ووجدانیة رقراقة تفیض بها تضاعیف قصائد عامة (المصدر نفسه: 157). سنحاول خلال هذه المقالة عرض أهمّ أنماط التكرار وتتبع أثارها الجمالیة فی دیوان"قلیلك ..لاكثیرهنّ".
4. القسم التحلیلی
4-1. تكرار الألفاظ
تمتلک الألفاظ المفردة – من قبل أن توضع فی بناء لغوی – طاقات إیحائیة خاصّة، یمكن إذا ما فطن إلیها الشاعر ونجح فی استغلالها أن تقوی من إیحاء الوسائل والأدوات الشعریة الأخرى وتثریه(عشری زاید،2008م: 51). یستخدم السماوی تكرار الألفاظ فی الدیوان بصورة مختلفة. الرسم التالی یتبین ذلك بصورة واضحة:
الرسم الأول: تكرار الألفاظ
4-1-1. الكلمة المكررة
وهو ما تطلق علیه نازك الملائكة اسم التكرار البسیط (الملائكة،1977م: 264). من تكرار الكلمة قوله: فی قصیدة"جبل الوقار":(السماوی،2007م: 28-29)
غریبُ... والهوى مثلی غریبٌ ورُبّ هوىً بمغترب عقابُ
كلانا جائع والزاد جمرٌ كلانا ظامىءٌ والماء صابُ
كلانا فیه من حزن سهولٌ وأودیةٌ... ومن ضجرٍ هضابُ
كأنّ لقلبه عقلاً.. وقلباً لعقلٍ فهو سحٌ وانسیابُ
نحس بمدى سیطرة الغربة على نفسه وفكره حتى یكرّر هذه الألفاظ "غریب، الهوى، كلانا، قلب، عقل". لأنّ تكرار هذه الكلمات ینبعث من أعماقه فهو لایسأم تكرارها. التكرار هو الوسیلة الأساسیة التی یستطیع السماوی أن یبیّن لنا مدى علاقته النفسیة بالعراق وحنینه إلیها. یلعب السماوی مع الكلمات بصورة تثیر عواطف المتلقی ك(كأنّ لقلبه عقلاً وقلباً لعقل).
یقول السماوی فی قصیدة"یحدث فی خیالی"
سیدة النساء یا مسرفة الدلالِ/ لاتأخذی بما یقول عاشقٌ/ فی لحظة انفعالِ/ سیدة النساء یا مسرفة الظنون/ سیدة النساء... (المصدر نفسه: صص53-61)
یمكن القول أن نعتبر تكرار "سیدة النساء" تعبیراً عن حبیبته أم الشیماء أو وطنه، لأنّ الشاعر یمزج بینهما حیث لایستطیع القراء تمییزهما فی الدیوان، على أیة حال تكرار هذه الألفاظ یدلّ على حبّه الخالص والحالات النفسیة الحزینة فی منفاه تجاه الحبیبة/ الوطن. كما تتكرر كلمة"خیالی" حتّى نهایة القصیدة ثلاث عشرة مرة.
كما یقول فی قصیدة "كأنّی أطالب بالمستحیل":
وأن لایؤول العراق/ وأن لا یعود العراقُ/ سریر الطواغیت.... (المصدر نفسه:72-73)
كلمة "العراق" من أبرز الكلمات التی یستخدمها الشاعر فی قصائده مباشرة ورمزیة من خلال الألفاظ ك"نخل، فرات و...". هو كرّر لفظة "العراق" لیكشف عن حنین كامن فی صدره ویدلّ على سیطرة العراق على مشاعره وشدة حنین الشاعر إلى بلده.
یقول فی قصیدة "طرقنا بابكم فأجاب صمت":
أما لبعید هودجكم قدومُ؟ یتیم بعدكم قلبی... یتیمُ (المصدر نفسه:33).
تكرار كلمة "یتیم"فی هذا البیت یدلّ على وحدة الشاعر فی منفاه وغربته من وطنه. فاستخدام السماوی تكرار اللفظة المفردة خلال الدیوان كثیراً یؤدی إلى الوحدة الموضوعیة والعضویّة فی القصائد. تتجلى لنا صورة حزینة وصادقة من شعوره فی فراق وطنه العراق التی یعبّر عنها خلال هذا الأسلوب. ویجسد نفثاته وآلامه وذكریاته تجاه العراق التی یؤدی إثارة المتلقی فی بناء مستقبل البلد.
فهو من خلال التکرار یستطیع تأکید فکرته المسیطرة علی أفكاره وشعوره، ویؤدی الى تشکیل الموسیقی الداخلیة فی القصیدة التی تتناسق مع غایاته. كما قال الدكتور عصام شرتح: لقد امتازت قصائد السماوی بجمالیة اختیار الكلمة لتكون فی موضعها المناسب لها؛ فالتكرار فی قصائده لیس عشوائیا أو اعتباطی الرؤیة أو التشكیل؛ وإنما هی مهندسة منسجمة؛ منسقة فی موضعها الملائم لها؛ وهذه الخصیصة هی التی تجعله الشاعر الجمالی أو لنقل الشاعر الفنان القادر على إصابة الهدف الشعری من وراء اختیار تكرار الكلمة فی السیاق الذی ترد فیه، هو الذی یجعل نصوصه عالیة المستوى؛ قادرة على استقطاب القراء بأسلوبها الجمالی، وحنكتها التصویریة، وملمحها العاطفی المثیر(شرتح،2011م: 41).
4-1-2. تكرار الضمائر
ومن الأسالیب اللغویة فی دیوان یحیى السماوی والملفتة للنظر، أنّه كثیرا ما كان یستخدم ضمیر المتكلّم فی التعبیر عن ذاته. یقول فی قصیدة "أربعة أرغفة من تنور القلب":
أملؤها بكوثر الأمانی/ وبالتسابیح التی/ تفیض من قلبی على لسانی/ بنیتُ فی خیالی/ مئذنةً.../ وملعباً طفلاً../ وطرزتُ الصحارى بالینابیع التی تجول/ فی غابات برتقالِ.../ وعندما غفوتُ تحت شُرفة ابتهالی/ شعرتُ أن خیمتی حدیقةٌ/ وأنّنی سحابة/ رسمتُ بالإشارةْ/ نسجتُ للكوّة فی الجدار/ من هدب المُنى ستارةْ/ وقبل أن أنام فی كوخی على وسادةٍ حجارةْ/ دوّنتُ فی دفتر عمری هذه العبارةْ ... (السماوی،2007م: 95-96 ). كما یقول فی قصیدة "خُسر":
الوطن استراح منی../ وأنا استرحتُ.../ لأنّنی/ منذ تمرّدتُ علیه/ متُّ (المصدر نفسه: 98)
اعتمد السماوی فی هذه الابیات على تكرار ضمیر المتكلم لیعكس إلحاح الشاعر للتأكید على تفرده وتمیزه حتى فی فراق وطنه. لأنّه یعبّر بضمیر المتكلم عمّا یختلج من المعانی عند الأدیب. فیركز السماوی علیه لبیان حقده النفسی تجاه الطغاة ومحتلی وطنه الذی مازال مصدر آلامه ومأساته. تكرار الضمیر فی الأبیات یمنحها تتابعاً شكلیاً.یكمننا أن نستنتج أنّ الشاعر فی خیاله هو الفاعل والمسیطر فیمكنه أن یفعل ما یرید.
4-1-3. تكرار كلمات الطبیعة
من أهمّ خصائص هذا الدیوان لجوء الشاعر إلى تكرار كلمات طبیعة العراق حیث یقرأ القراء قصائده كأنّه فی طبیعة العراق. على سبیل المثال یملأ الشاعر قصیدة "یحدث فی خیالی" من هذه الكلمات:
هل یزعل العصفور من سماحة البیدر؟/ والزهر من الربیع؟/ والنسر من الأعالی؟/ یحدث أن أقیم جسر الودّ/ بین الشاة والذئب/ وبین الضبع والغزالِ/ بیننا نهران من ضحك/ ومن بكاءْ/ وحقل یاسمین/ تشكو سواقیه احتراق الماءْ (السماوی،2007م: 53-62).
یجسد السماوی طبیعة العراق من خلال تكرار الكلمات ك ""العُشب، الجبال، العصفور، سماحة البیدر، الزهر، الربیع، النسر، حدیقة، السهول الخضر، بستان البرتقال، ذئاب، النوق العصافیریة، الغزلان، جِمال، ابحار، الموج، رمال، الطیور، الجراد، بساتین الفراتین، الحقول، الشاة، الصقر، الضبع، الطواویس، نهران، حقل یاسمین، سواقیه و...". ویظهر فی قوله متغنیا بالطبیعة العراقیة عبر هذه الألفاظ التی تدلّ علی حبّه تجاه الوطن. كما تتكرّر فی قصیدة "حین تكونین معی" الكلمات " الربیع، الورد، الضفاف، المیاه، العشب، الطیر، الأشجار، الأمطار، البحار، لؤلؤ و... . نرى فی هذه القصیدة أمله إلى المستقبل. وفی قصیدة"غیثان: تكرار الكمات كـ " طائر العشب، غصن الیباب، الذباب، بساتین، الذئاب..." یرجع إلى رومانسیة الشاعر. كما یقول الدكتور یحیى معروف "لو تصفحنا المجامیع الشعریة لشاعرنا یحیى السماوی، لوجدنا مجموعة ضخمة من قصائده ملیئة بالحبّ والهیام، حیث یمكننا أن نسمیه شاعر الحبّ والرومنسیة"(معروف،1433: 4).فقد اعتمد السماوی على الإستعارة التشخیصیة للكشف عن أحاسیسه بما حوله من الطبیعة، فتفجر هذه التصاویر فی أعماقه من الحقد على المحتل الذی ینسّق بین أفكارا وأحاسیسه المضطربة وتناغماً بین الصور الشعریة والموسیقى. لأنّ الشعر لا یكون الا بالنسیج والتألیف بین الفكرة والعاطفة والصورة والموسیقى اللفظیة (عجلان،1989م: 142).
تكرار التشخیص یرسم لوحات إستعاریة جمیلة مختلفة فی أشعاره الرومانسیة. فیضفی السماوی على هذه الاستعارات المكنیة الصفات البشریة. نلاحظ كیف یتمثّل السماوی تجلیات همومه فی مظاهر الطبیعة؛ وهذا یدلُّ علی التناسب بین مضمون القصائد وصور الطبیعة التی تشیر إلى ظلم الطغاة. قال علی عشری زاید: "حیث كان من نزعات الرومانسیین الواضحة الهرب إلى الطبیعة، والامتزاج بها فراراً من فساد المجتمع وما یموج به من ظلم وشرور، وكثیراً ما كانوا یجعلون الطبیعة تشاركهم عواطفهم الخاصة، فیسقطون علیها أحاسیسهم، ویشخصون مظاهرها المختلفة"(عشری زاید،2008م: 76).
4-1-4. تكرار المقابلات
میسم من أبرز المیاسم الأسلوبیة التی تمیز شعر السماوی بصفة عامة، وتعدّ محوراً تشكیلیاً مهماً ترتكز علیه آلیاته وطرائقه التعبیریة فی هذا الدیوان بنوع خاصّ، ألا وهو میسم "المقابلة" بوصفها مسلكاً تعبیریاً وعنصراً تشكیلیاً أثیراً یوظّفه الشاعر – فی براعة واقتدار فنیین – لینقل إلینا مدى ما یعتمل بوجدانه من إحساس حادٍّ وعمیق بالمفارقات فی شتى صورها، ومتنوّع مجالیها (الغرباوی، 2010م: 180). على سبیل المثال فی قصیدة "ستسافرین غداً":
"ریثما تخضرُ صحرائی/ بوقع خطى إیابك"/ إنّی لیغنینی قلیلُك عن كثیر الأُخریات (السماوی،2007: 23).
كما فی قصیدة "یحدث فی خیالی":
وأسرج الخضرة فی القفار/ حتى تستحیل جنّة أرضیّة/ضاحكة السلالِ../ یحدث أن أقیم جسر الودّ/ بین الشاة والذئب/ وبین الصقر والعصفور/ بین الضبع والغزالِ/ بین ضفاف الأرض والسماءْ/ جسر من الیقینْ.../ وبیننا نهران من ضحك/ ومن بكاءْ/ وحقل یاسمینْ/ تشكو سواقیه احتراق الماءْ (المصدر نفسه: 59).
یرتبط بین معانی المقابلات ویجعلها متلاحقة متواترة، ویكون تكرار المقابلات من أبرز خصائص هذا الدیوان الذی یُثیر شعبه على الثورة ضد المحتلین. كما یعبّر عن التوتر النفسی والشعوری الذی یعانیه السماوی ویولّد الإیقاع فی أشعاره إلى جانب التوكید فی المعنى.
ویجمع الشاعر بین هذه المتقابلات على أساس الإنزیاح. لأنّ "رصد ظواهر الإنحراف فی النصّ یمكن أن تعین على قراءته قراءة استبطانیة جوانیة تبتعد عن القراءة السطحیة والهامشیة، وبهذا تكون ظاهرة الانحراف ذات أبعاد دلالیة وإیحائیة تثیر الدهشة والمفاجأة، ولذلك یصبح حضوره فی النص قادرًا على جعل لغته لغة متوهجة ومثیرة تستطیع أن تمارس سلطةًعلى القارئ من خلال عنصر المفاجأة والغرابة. كما یعكس قدرة كبیرة عند المبدع على استخدام وتفجیر طاقاتها وتوسیع دلالاتها وتولید تراكیب جدیدة لم تكن دارجة أو شائعة فی الاستعمال"(محمد الزیود،2007م: 4). فقد استطاع تكرار ظاهرة الانزیاح تقدیم إمكانیات دلالیة متنوعة لیحقق مزیداً من الجمالیة وإثراء القصیدة من النواحی الایحائیة. یدلّ على عمق أفكار السماوی لتغییر أوضاع المجتمع بأشكال متنوعة.
4-2. تكرار العبارات
هذا النمط من التكرار موجود بكثرة فی القصائد المعاصرة، ویكون بتكرار عبارة بأكملها فی جسد القصیدة. وإذا جاء هذا النمط فی بدایة القصیدة ونهایتها فإنّه یساعد على تقویة الإحساس بوحدتها، لأنّه یعمل على الرجوع إلى النقطة التی بدأ منها. كما تقول دهنون أمل نقلاً عن محمد لطفی الیوسفی «إنّها تمكّن القصیدة من العودة إلى لحظة البدء أی لحظة الولادة»(أمل،2008: 8). قسمنا تكرار الجملة إلى قسمین: اولاً: تكرار الجملة بأكملها: تكرار الجملة المستقلة فی القصائد وتكرار العنوان فی القصائد، ثانیاً: تكرار التراكیب المتنوعة. والرسم التالی یبین ذلك بصورة واضحة:
الرسم الثانی: تكرار العبارات
4-2-1. تكرار الجملة بأكملها
4-2-1-1. تكرار الجملة المستقلة
یقول السماوی فی قصیدة "تضاریس قلب":
لكی أكون مؤهلاً للحبّ/ فی الزمن الجدید/ كیما أكون مؤهلاً للعشق/ والصبّ التقیا (السماوی،2007م: 12-14).
یدلّ التكرار لجملة " أكون مؤهلاً " على أنّه مازال یعشق وطنه ولیس لحبّه بدیلٌ. كما یقول السماوی فی قصیدة "تماهی":
بینك والعراقْ/ تماثل .../ كلاكما یسكن قلبی نسغ احتراقْ.../ وها أنا بینكما*** بینك والفرات/ آصرة.../ كلاكما یسیل من عینیّ/ كلاكما صیّرنی أمنیة قتیلة/ كلاكما مئذنةٌ حاصرها الغُزاة../ ها أنا بینكما*** بینك والفرات/ قرابةٌ.../ كلاكما ینام فی ذاكرة العشب/ كلاكما أثكله الطغاة والغزاة/ ها أنا بینكما*** ... (المصدر نفسه: 15-19).
كرّر السماوی فی هذه القصیدة جملة "ها أنا بینكما" ثلاث مرات حیث یختم كل مقطع بتكرار الجملة وهی الترکیب الغالب على نحو لافت فی القصیدة. إنّ تكرار هذه العبارات یعبّر عن حجم الآلام التی یعیشها السماوی فی منفاه. تولّد جمالیة التكرار فی هذه الأبیات إیقاعاً وجرساً خاصاً یتلاءم مع مضامین القصائد. ینظر السماوی الى وطنه كمعشوقة ویجمع بینهما فی الدیوان.
كما قال محمد جاهین بدوی: "تأتی تجربة عشق الوطن فی مقدمة طیوف المشهد فی "قلیلك... لاكثیرهنّ" تلك التجربة التی یتماهى فیها الوطن مع الحبیبة، ویتشكّل عبر رسومها، ویتبدّى فی قسماتها، وتغدو الحبیبة كذلك من بعض وجوهها، وفی بعض تجلیاتها الروحیّة وطناً للنفس، وسكناً للفؤاد، وإنّهما لیتماهیانِ، ویغدو أحدهما معرضاً تتجلّى على صفحته صورة الآخر فی تواشج رؤیویّ حمیم حتى یصیرا فی مخیلة الشاعر شیئاً واحداً، ما ذاك إلا لحنینه المحرِّق إلیه، وشدة إحساسه باغترابه عن ذاك الوطن"(بدوی، 2010: 158).
4-2-1-2. تكرار العنوان فی القصائد
العنوان رسالة لغویة – بالمفهوم السیمیائی - تعرّف بتلك الهویة وتحدّد مضمونها، وتجذب القارئ إلیها، وتغریه بقراءتها، وهو الظاهر الذی یدلّ على باطن النصّ ومحتواه(رحیم،2008م: 10). العنوان أكبر ما فی القصیدة، إذ له الصّدارة ویبرز متمیزاً بشكله وحجمه، فهو لافتة دلالیة ذات طاقات مكتنزة، ومدخل أوّلِیّ لا بدّ منه لقراءة النصّ(المصدر نفسه:9-10). تكون عنوان القصائد فی شعر یحیى السماوی بمثابة المرآة الصافیة التی تعكس أفكار الشاعر ویكون ذا علاقة وطیدة مع نفسیة الشاعر بحیث تجسّد لنا مضمون القصیدة قبل قراءتها خلال الإیحاءات السیمیائیة. یقوم الشاعر بتكرار عناوین القصائد بصورة مكررة. والجدول التالی یتبین ذلك بصورة واضحة:
الجدول1: تواتر العنوان فی دیوان"قلیلك...لاكثیرهن"
عنوان القصائد عدد تواترعنوان فی القصیدة
ستسافرین غداً؟ 2
یا جبل الوقار 2
فی آخر العمر 8
یحدث فی خیالی 5
كأنّی أطالب بالمستحیل 3
أین ستهربین من حبّی 3
حین تكونین معی 6
مثلث السلطة 2
طرقنا بابكم فأجاب صمتٌ 2
ماعدتِ سرّاً 2
یاصاحبی 2
جنون 2
على سبیل المثال فی قصیدة "آخر العمر":
فی آخر العمر/ اكتشفتُ أننی غریرُ.../ فی آخر العمر اكتشفت/ أننی الزاهد../ والمسرف.../ والصعلوكُ.../ واكتشفتُ أنّ زورقی/ أكبر من أن/ تستیطع حمله البحور.../ فی آخر العمر اكتشفتُ/ أنّ كلّ وردةٍ حدیقةٌ كاملةٌ/ كلّ كوخٍ وطنٌ/ فی آخر اكتشفتُ/ أنّ قلباً دونما حبیبةٍ/ مبخرةٌ لیس بها بخورُ.../ فی آخر العمر اكتشفت/ أنّ لی طفولة ضائعة/ جاء بها حبّك/ فی آخر العمر اكتشفت/ أننی سادنك الناسك.. والخفیر/ أركض فی روضكِ/ فی آخر العمر اكتشفتُ/ أننی طفلك یا سیدتی الطفلة/ طفلٌ عاشقٌ... (السماوی،2007: 37-42).
یتبین السماوی لنا ما یختلج فی نفسیته صریحاً حتى یرسم فی خیاله لوحات تشكیلیة من الوطن والعمر وطفولته. یؤكد فكره مستعیناً بالتكرار حیث یستهل كل مقطع بتكرار عنوان قصیدة "فی آخر العمر اكتشفتُ". یمتزج بین العناوین وقصائده؛ لأنّ تكرار العنوان عنصر فعَّال فی تكوین أشعار السماوی، فهو یهتم بالعنوان حیث یجعله النقطة "المركزیة"، التی تتمحور حوله القصیدة. كما فعل فی قصیدة " آخر العمر"، الذی یكرر العنوان فیها ثمان مرات.
فالشیء الذی له دور محوری فی الفهم العمیق لأشعار السماوی هو العنوان. فثمّة تلاؤم واضح بین عنوان القصائد ومحتواها. كما قال الغرباوی نقلا عن جاسم خلف الیاس: عند تتبعنا العناوین فی شعر السماوی وجدنا صحة ما ذهبنا إلیه، إذ أن ثنائیة الوطن والمنفى قد انعكست فی اغلب العناوین تعبیراً عن الإحساس بالغربة عن الذات والمكان(الغرباوی،2010م: 45).
4-2-2. تكرار التراكیب المتنوعة
كما ذكرنا ظاهرة التکرار من الظواهر الأسلوبیة الهامّة فی الشعر العربی المعاصر ولها دلالات معنویة تتخطى وجودها اللغوی. لكن التكرار فضلاً عن كونه خصیصة أساسیة فی بنیة النص الشعری]فإن له[ دوراً دلالیاً علی مستوى الصیغة والتركیب المتنوعة فهو أحد الأضواء اللاشعوریة التی یسلطها الشعر على أعماق الشاعر فیضیئها (راضی جعفر،1999م: 99). نرى هذه التراكیب فی دیوان یحیى السماوی بصورة مختلفة ولافتة. نقصد بتكرار التراكیب المتنوعة، تكرار الأبیات فی أسلوب النحوی الواحد.
4-2-2-1. تكرار أسلوب: الجار والمجرور + فعل المضاع + ....
یستفید السماوی فی قصیدة "إهداء" من هذا الأسلوب:
للطفل یحبو فوق أرصفة الكلام للطفل + یحبو + فوق أرصفة الكلامْ
للأمّ تحضنهُ.. تزقّ مكارم الأخلاق../ للصبح یغسل بالضیاء الدرب من وحل الظلامْ/ للریح ینسج من حریر نسیمه بُرد المسرّة للأنامْ/ للریح قادت للثرى العطشان قافلة الغمامْ../ للحدائق تزدحم الخنادق../ للمستبدّ اختار أن یلقی السیاط إلى الضرامْ/ للمارق انتبذ الخطیئة... (السماوی،2007م: 5-9).
تؤدی جمالیة تكرار هذا التركیب دورا فنیاً إیقاعیّاً فی انسجام أبیات القصیدة من بدایتها إلى نهایتها. وتتجلّى لنا براعة الشاعر وعبقریته فی بیان الحالة الشعوریة المسیطرة على ذاته.
4-2-2-2. تكرار أسلوب" فعل مضارع + أن فعل مضارع + فی + اسم
یستخدم السماوی هذا الأسلوب فی قصیدة "یحدث فی خیالی":
یحدث أن أشیّد فی خیالی یحدث + أن أشید + فی خیالی
یحدث أن أجعل من عینیك/ یحدث أن أزرع فی خیالی/ یحدث أن أنسج فی خیالی/ یحدث أن أجعل من یدیك فی خیالی سوراً/ یحدث أن أسوق نحو بیتك/ یحدث أن تسافری یومین عنی/ یحدث أن تزفّك البحار لی/ یحدث أن أكتب فی خیالی/ یحدث أن یُجلسنی خیالی/ یحدث أن أطهر الحقول من كلّ الجراد البشریّ فی بساتین الفراتین/ یحدث أن أقیم جسر الودِّ/ یحدث أن أموت فی خیالی/ یحدث أن أفیق من خیالی (المصدر نفسه: 53-63).